لا يدفن الآباء أبناءهم - كارولين كامل - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 2:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا يدفن الآباء أبناءهم

نشر فى : الإثنين 13 نوفمبر 2023 - 6:35 م | آخر تحديث : الإثنين 13 نوفمبر 2023 - 6:35 م

فى كل مرة كنت أتألم وأخبر والدى أنى لن أتجاوز هذا الألم أبدا، كان يطيب خاطرى ويخبرنى أن الحياة لا تزال مليئة بالتجارب المؤلمة التى تنتهى فى لحظة ما، فسألته عن هوية الألم الذى يستحيل على الإنسان تجاوزه، فقال لى أن يدفن الآباء أبناءهم، لأن هذا ضد قانون الطبيعة، فنحن نولد ونشيخ ونرحل فالأبناء يدفنون الآباء، إنما أن يحمل الأب والأم وليدهما إلى القبر هو بمثابة سكين فى القلب ليس مجازا بل مأساة يعيشها هؤلاء كل يوم بعد أن يودعوا أطفالهم القبور، إن كانت تلك الأيام المريرة التى يقضونها بعدهم يُمكن أن تلقب بحياة.
يقول المؤرخ الألمانى يورج بابروفسكى فى كتابه «العنف والإنسان»: «نحن نجعل من الكارثة لغزا حتى لا نضطر أن نُثقل على حياتنا الطبيعية بالبلبلة المستدامة»، يتعامل بعض المتخاذلين مع القضية الفلسطينية وكأنها لغز حتى لا يواجهون حقيقة أن ما يحدث فى غزة جريمة ضحاياها من المدنيين العزل ونسبة كبيرة منهم أطفال.
يطول الكلام عن مصير غزة وإعمارها، ولكن فى هذه اللحظة تذكرت كلمات والدى عن الألم غير المحتمل لفقدان طفل، كم أسرة دفن فيها الكبار صغارهم، وربما فقدوا أكثر من عزيز لديهم دفعة واحدة، تلك الأيام الطويلة التى تنتظرهم حين يمزقهم الاشتياق ورغبتهم العارمة فى احتضان أحبائهم الذين رحلوا.
شاهدت فيديوهات لأطفال تنتفض أجسادهم أو يبحثون عن ذويهم، لم يكن أى منهم يبكى، وإنما يبدو الذهول على ملامحه، وأعين مفزوعة ترى كم يبدو العالم قاسيا وقبيحا، كم من وقت سيحتاجون حتى يتجاوزون هول ما عاشوه؟!
• • •
من القتل إلى حمل السلاح والأطفال مستهدفون فى الحرب، منذ بداية العام والحرب فى السودان ترتفع حدة وتيرتها، حتى تفاقمت أحداثها مؤخرا، وصارت الجثث ملقاة فى الشوارع، ووصل عدد القتلى إلى الآلاف وما يفوق هذا العدد من الجرحى، بالإضافة إلى ملايين النازحين.
ما يحدث فى السودان مرعب بسبب التقارير الحقوقية عن الجرائم ضد الإنسانية التى تحدث كل يوم، انتهاكات وعنف ضد النساء وصل إلى حد الخطف والاغتصاب كواحدة من أساليب الترويع وفرض السيطرة، فالحروب يشنها الرجال ويدفع الأطفال والنساء ضريبتها.
ليس الموت وحده ما يختطف براعم الأطفال، وأوضحت سيوبان مولالى ــ المقررة الخاصة المعنية بمسألة الاتجار بالبشر فى الأمم المتحدة ــ أنه تم رصد خطف وتجنيد الأطفال الذين فقدوا ذويهم من قبل الجماعات المسلحة، ولكن أيضا ينضم الأطفال للجماعات المسلحة بإرادتهم بسبب الفقر والجوع.
هل يمكن تصور عالم أكثر قبحا يضطر فيه طفل أن يحمل بندقية ويقتل إنسانا آخر ليحصل فى المقابل على رغيف خبز!.
• • •
تبدو نهاية عام ٢٠٢٣ ثقيلة ودموية على الأقل فى تلك المنطقة التى نقطنها، ولا نتوقف عن السؤال «إلى متى تستمر المعاناة؟»، بل ونسأل عن ضمائر هؤلاء الذين يحملون الأسلحة ويزهقون الأرواح، كيف ينظرون إلى أنفسهم فى المرآة؟ أو كيف تنام أعينهم ليلا؟، أجاب المؤرخ الألمانى يورج بابروفسكى فى كتابه «العنف والإنسان» عن هذا السؤال بقوله: «نحن لا نريد أن ندرك أن بعض الناس يعتدون على أشخاص عُزل ويقتلونهم فقط، لأن ذلك يسبب لهم السعادة». إذن الكثير من القتلة سعداء، ولكن هل يمكن الرهان على ضمائرهم بعد وقت؟!
• • •
تمتمت تقول: ماذا تفعل؟ ما هذا الذى تفعله؟ أأمامى أنا، تسجد؟. نهض وقال: «أنا لا أسجد أمامك أنت.. بل أمام معاناة البشرية كلها»، الفقرة من رواية «الجريمة والعقاب» للكاتب الروسى دوستويفسكى، ترجمة سامى الدروبى عن دار التنوير، عندما انحنى البطل راسكولينكوف أمام صونيا التى دفعها الفقر والعوز وحاجة أسرتها إلى المال أن تعمل بالدعارة وهى لا تزال طفلة وهو ما يراه جريمة لا يصح أن تحدث على الرغم من كونه قاتلا!.
أحيانا من شدة الغضب أعود إلى الخانة صفر وأسأل أسئلة مثل التى يسألها الأطفال؛ هل هناك أشرار؟، من هم الأشرار؟، لماذا يفعلون الشر؟، هل يولدون أشرارا؟ لماذا لا ينتصر الخير مثلما يحدث فى أفلام الكارتون؟
حاول الباحث الأسترالى لوك راسل فى كتابه «الشر رؤية فلسفية» الصادر عن دار الكرمة، ترجمة محمد هوجلا كلفت، أن يفتش فى أفكار الفلاسفة والباحثين عن رؤى فلسفية تصف الشر وتشرحه، ووضع عدة تصورات منها: «تكون شخصا شريرا إذا، وفقط إذا، كنت ميالا بقوة إلى ارتكاب أفعال شريرة، وكان هذا الميل ثابتا ثباتا متينا إلى حد أنه يتوجب التعامل معك كمستعبد».
فى كتابه أوضح لوك أن الإنسان فى العادة لا يكون شريرا وإنما يبدر عنه أفعال شريرة، ولكن فى هذه الرؤية يجد لوك أن فعل الشر فى حياة البعض لم يعد مجرد فعل عابر، بل صار ذا سطوة بحيث إن مرتكبه لم يعد يملك إرادة الامتناع، وهذا ربما أكثر تفسيراته للشر رعبا لأن معناه أن الشخص لن يتوقف عن أفعاله إما لأنه لا يملك اتخاذ القرار أو لأنه ببساطة لا يريد التوقف.
ما يحدث فى غزة وفى السودان يُدمى القلب، مع الشعور بالعجز وقلة الحيلة، بل والغضب من كون العالم غير عادل بالمرة، وكأن هناك شعوبا كُتب عليها أن تسرق الراحة والبهجة أياما، وتعانى سنوات، فنحن واقعون تحت سطوة بشر لا تؤرقهم جرائمهم ولا نملك سوى أن نكتب تلك الكلمات.
• • •
مقطع من أحب الروايات إلى قلبى «هيا نوقظ الشمس» للكاتب البرازيلى جوزيه ماورو، وهى رواية من جزأين الراوى فيها زيزا، طفل صغير كثير الأسئلة وواسع الخيال، يسكن قلبه ضفدعة حكيمة اسمها آدم، فكان زيزا يبكى فى إحدى المرات من الظلم الواقع عليه، فطلب منه الضفدع أن يرفع عينيه إلى الشمس، يقول الضفدع آدم: إذا كانت شمس الرب جميلة جدا، فما بالك بالأخرى.
فوجئت تماما لكلامه وسألته: أى شمس أخرى يا آدم، لا أعرف إلا هذه، وهى بطبيعة الحال كبيرة جدا.
قال: أتحدث عن شمس أخرى أكبر بكثير، تلك التى تولد فى قلوبنا.. شمس آمالنا العظيمة، الشمس التى نوقظها فى صدورنا حتى تستيقظ كذلك أحلامنا.
من أجل أن تشرق فى قلوب أطفال غزة والسودان شمس طيبة.

كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات