الشوار - كارولين كامل - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 2:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشوار

نشر فى : الإثنين 4 سبتمبر 2023 - 7:55 م | آخر تحديث : الإثنين 4 سبتمبر 2023 - 7:55 م

تربيت فى منزل حيث توجد ماكينة «سنجر»، مختبئة تحت غطاء خشبى يشبه حقيبة السفر، وتستريح على منضدة خشبية مُصممة خصيصًا من أجلها، وتتوسط غرفة الجلوس وكأنها قطعة ديكور تُغطيها أمى أحيانًا بمفرش كبير مطرز بالخيوط الملونة على أشكال زهور وأوراق شجر.
لكن الماكينة لم تكن موجودة للزينة، بل كانت بمثابة الصديقة المؤتمنة لأمى، المخلصة التى لا تخيب أملها كلما أخرجتها من محبسها، ما عدا تلك المرات التى ينقطع فيها الخيط أو تنكسر الإبرة، فتعاتبها أمى برقة «ليه كده يا بنت الناس ما كنتى شغالة».
لم يكن مسموحا لى أو لأشقائى الاقتراب منها، إلا فى حالة حاجة أمى إلى المساعدة فى لضم الإبرة، وهى المرات التى نتسابق حتى نحصل على شرف تمرير الخيط من الثقب الضيق، ينحنى المختار منا ويحاول دس الخيط فى الثقب الضيق، وبعد أن ينجح فى المهمة، يحصل على المديح من أمى بجملتها «فالح/ ة يا خويا/ ياختى».
• • •
هكذا كانت أمى رسميا مُعلمة فى إحدى مدارس الثانوى التجارى، وبشكل احترافى مجانى «خيّاطة» لنا ولأفراد العائلة وقلة من الأصدقاء المقربين، تؤدى ما تفعله بمهارة وبمجانية، تقيس أبعادنا بالمازورة، وترسم الباترون على ورق الجرائد أو ورق الزبدة، وتقص القماش وتسرجه يدويا أولا، وعندما تتأكد من انضباط المقاسات على صاحبه، تحيكه على الماكينة، فيصدر ذلك الصوت المميز للموتور، مصحوبا بصوت دقات الإبرة التى تنغرز صعودا وهبوطا فى النسيج.
أخيرا تنحنى أمى برأسها على الماكينة وتقضم الخيط وترفع المنتج النهائى أمام عينيها تتأمل تفاصيله، وبمقص صغير تقضى على الخيوط الصغيرة التى لا تُرى بسهولة، وتقول لمن يراقبها «نظافة التفنيش هى اللى بتقول اللى عمل الحتة دى بيفهم ولا أى كلام».
فى ألبومات الصور التى تحتوى على صورنا منذ أن حملت بنا أمى، نظهر فى كل مراحل عمرنا نرتدى ملابسنا المنزلية والأخرى الخاصة بالخروج، كلها من تفصيل أمى، وعندما كبرنا وتمردنا سمحت لنا بالحصول على ملابسنا من المحلات، ولكن لأسباب مادية حينها عدنا إلى الملابس التفصيل.
ولكن بالتأمل فى هذه الممارسة الآن وأنا أكتب، اتضح لى أن أمى كانت تحب تفصيل الملابس فكنت أنا وشقيقتى نحذو حذوها ونشاركها رحلة شراء الأقمشة وتفصيل الهدوم، ولكن على كل حال إن كانت الأسباب مادية أو تقليدا لأمى لا شعوريا، فإن تلك الرحلة التى تبدأ بشراء الأقمشة واختيار الموديل والتفاوض مع الترزى وأخيرا شراء الكُلف كانت بمثابة بهجة مُسلية خاصة لفتاة مثلى تحب محلات الأقمشة وألوانها المبهجة، وتلك الرائحة التى ترتبط بهذه الأماكن.
• • •
احترافية أمى جعلتها محل ثقة لعدد من بنات العائلة، أن تتولى هى مسئولية تفصيل ملابس «شوارهن» فى نهاية تسعينيات القرن الماضى، «الشوار» هذه الكلمة التى لا تبدو أنها متداولة كثيرا تعنى جهاز العروس، وتُستخدم تحديدا لوصف ملابسها وحاجاتها الشخصية.
قبل تلك الأعراس كان منزلنا يمتلئ بالنساء والأقمشة والكلف والمجلات، وتفننت أمى فى حياكة قمصان البيت تلك التى تشبه الفساتين، وتمنيت أن أحصل على شوارى أنا أيضًا من يد أمى.
ولأنى من مدينة المحلة الكبرى فقد تربيت على شراء الأقمشة خارج مواسم الأعياد، إلا أنه فى مواسم التخفيضات كانت أمى تشترى الأقمشة التى تناسب ذوقنا وتصلح لتكون جزءا من جهاز عرسنا فى المستقبل، ومثل كثير من الأمهات المصرية كانت أمى تشترى لنا ملابس جاهزة الصنع أيضا من قبيل تجهيزنا، وبدأت هذه الرحلة من الشراء منذ كنا فى مرحلة الثانوية العامة، نظرا إلى أن المجتمع لا يزال ينتظر من الفتاة أن تحصل على شهادتها الجامعية وتتزوج فى العام ذاته.
ولحسن حظى أنا وشقيقتى أتمت أمى جزءا كبيرا من ملابسنا المنزلية كعرائس ونحن فى منتصف دراستنا الجامعية، وتوقفت أمى بعدها فترة طويلة عن التفصيل لأسباب مرضية تحول دون جلوسها واستخدام الماكينة وقت طويل، إلا أنها لا تزال تهتم بمعالجة ملابسنا التى تحتاج إلى تدخل بسيط مثل تضييق خصر أو تقصير بنطلون.
وبسبب هذه النشأة صارت عملية تسوقى للملابس صعبة لأنى أبحث عن الأقمشة القطنية ولا أحب الألياف الصناعية، أتأكد من بطانة الملابس وكيفية حياكتها، لا تعجبنى الموديلات التى تجمع كل الأشياء فى قطعة واحدة، وغيرها من الملاحظات التى قد لا تلفت نظر الناس فى العادة.
• • •
مرت السنوات ولا تزال أمى مُخلصة إلى الماكينة السنجر من وقت إلى آخر، وأصرت على أن يحتوى جزء من شوارى أنا وشقيقتى على بعض القطع المُحاكة على الماكينة السنجر، اصطحبتنى إلى صديقتها وهى خياطة محترفة وتقول عنها أمى «دى بقى المعلمة الكبيرة».
كانت السيدة عن حق تستحق لقب المعلمة، فهى بالإضافة إلى مهارتها منقطعة النظير، لديها ذائقة فنية ممتازة ومُطلعة على أحدث الموديلات، ولكن أفضل ما يميزها هو «الفينش»، كانت تُخيط فى أعلى الفساتين والبلوزات والجواكت شارة زائفة تشتريها من محل الكُلف فتبدو الملابس التى حاكتها وكأنها ذات علامة تجارية، وعندما سألتها عن السبب، ضحكت وقالت لى «فى ناس بتنبسط أما تشوف حتة الماركة دى.. فنبسط الناس».
هذه القطعة الصغيرة المصنوعة من خيوط خشنة تسبب لى حكة فى عنقى، وعادة أتعامل معها بعنف وتكون سببا فى ثقب غالبية بلوزاتى لأنى أقطعها بقوة، متجاهلة نصيحة أمى أن أقصها بهدوء فلا تتمزق الملابس.
• • •
لم أتوقف تماما عن تفصيل الملابس خاصة بعد أن صارت غالبية ملابسنا نحن بنات وأبناء أرض القطن طويل التيلة من مصنوعات صينية، خامات رديئة وموديلات بدون ذوق، لذلك من وقت لآخر أتصل بأمى أسألها إن كانت تنوى زيارة الترزى الذى نتعامل معه منذ أكثر من عشرين عاما لأنى أرغب فى مرافقتها فقط لأستعيد ذكريات أوقات كان القطن المصرى والمنتج المحلى أفخر ما نحصل عليه.

كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات