الفراغ - كارولين كامل - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 6:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفراغ

نشر فى : الإثنين 7 أغسطس 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 7 أغسطس 2023 - 9:15 م
«إن مشكلة أوقات الفراغ لمن المشكلات الهامة التى تعرض مصر، وتقف جنبا إلى جنب مع بقية المشكلات الأخرى التى تربط بعجلة من حديد تقدمنا، وتحول إلى حد كبير بين الأفراد والصحة النفسية والإنتاج القومى العام». فقرة من كلمة محرر صفحة «فى عالم النفس» بعنوان «أوقات الفراغ»، فى عدد جريدة «المقطم» بتاريخ الخميس ١٥ فبراير عام ١٩٥١، تناول فى كلمته ما أسماه مشكلة وفرة الوقت لدى الكثير من الأفراد، دون الاستفادة منه والذى يمثل تحديا لابد من التعامل معه بحزم حتى يتسنى الانتصار على الثالوث الذى يهدد البلاد المتمثل فى «الفقر والجهل والمرض».
جريدة المقطم كانت جريدة سياسية يومية صدر عددها الأول فى عام ١٨٨٩، وبعد أربعة وستين عاما صدر آخر عدد منها فى ١١ نوفمبر ١٩٥٢، وحصلت على العدد بحوزتى من معروضات سوق «ديانا» حيث أتجول كل يوم سبت بحثا عن مقتنيات ورقية مشابهة لأغراض بحثية.
مقال المحرر فى حد ذاته نص يستحق القراءة والتمعن فى جميع تفاصيله، لدى تحفظات على بعض أفكاره سأذكرها فيما بعد، ولكن لابد أن أورد ما لفت نظرى من فصاحة تحليله لسلبيات أوقات الفراغ غير المستغلة، واستخدامه فى الخمسينيات من القرن الماضى لمصطلحات تحتل الصدارة فى المشهد العالمى والمحلى الآن مثل «الصحة النفسية ــ عدم الشعور بقيمة الحياة ــ الشعور بالوحدة ــ فقدان الشخصية ــ الصراع النفسى ــ تسرب الملل ــ الشعور بتفاهة الحياة».
كان المحرر مشغول البال بهذه الأزمة التى تؤثر على مزاج الشعب المصرى على حد كلامه، ويقول إن المشغولين بمسائلنا الاجتماعية لم يعرفوا بعد من أين يبدأون لحل هذه الأزمة، وضرب المثل بدولتى إنجلترا وألمانيا اللتين قضيتا على مشكلة أوقات الفراغ والوصول بإنتاجية الفرد إلى أعلى مستوى، دون أن يوضح السبل التى لجأت إليها كل دولة منهما لمعالجة هذه الأزمة.
•••
من المآخذ فى كلمته، أنه لم يفوت الفرصة ليتهم النساء بشكل غير مباشر بسوء اختيار الرجال لكيفية قضاء أوقات فراغهم، من خلال جلوسهم على المقاهى وتبديد أموالهم وصحتهم ويقول: «يقولون إن المقاهى هى أندية اجتماعية لا ضرر فيها وأن الدافع إلى كثرتها فى مصر إنما يرجع إلى سوء تنظيم البيت المصرى وتأخر المرأة المصرية فى بعث الحيوية والجمال فى منزلها الصغير، وقد يكون هذا الرأى على شىء كبير من الصحة»، لا يسعنى سوى الرد بـ«وأنا مالى يا لمبى».
لا أعرف هل يزعم الكاتب أن فى خمسينيات القرن الماضى كانت «كركبة» البيت المصرى، هى السبب فى خروج الرجال إلى المقاهى، ولو أن النساء صرن أكثر «ترويقا» لكانت المقاهى خالية لا تجد من يلعب على موائدها الطاولة والدومينو، أو من يدخن الشيشة قص وسلوم، لأن الرجال يجلسون ينعمون بالحيوية والجمال برفقة زوجاتهم؟!
بنى المحرر كلمته على استعراض المشكلة ولفت النظر إلى بعض أسبابها، ثم استفاض بالحديث عن السبل التى توفرها مصر لقضاء أوقات فراغ مثمرة ويقول: «تعليم الأميين عوض الجلوس على القهوة.. الاشتراك فى نادٍ رياضى.. الانتظام فى جماعة ذات أهداف سامية.. القراءة.. تعلم الرسم.. التصوير.. الموسيقى.. جمع الطوابع.. فلاحة البساتين».
•••
ساعدتنى ساعات انقطاع الكهرباء أحيانا على ممارسة رياضة التأمل ليس برغبة حقيقية، وإنما «مجبر أخاك لا بطل»، ولكن لأن ساعات الانقطاع فى منطقتى تكون فى منتصف اليوم فيمكننى قضاؤها فى القراءة، وبشكل ساخر تحولت تلك الساعة الحارة إلى ساعة قراءة إضافية محببة، حيث أترك هاتفى بعيدا، بل وصرت أتعمد تركه بدون شحن حتى انقطاع الكهرباء، فأكون مجبرة على عدم استخدامه فى تصفح وسائل التواصل الاجتماعى تجنبا لفقدان ما تبقى فيه من طاقة.
وفى إحدى جلسات التأمل الحارة، استعدت كلمات ونصيحة محرر باب «فى عالم النفس»، وجدتنى أمارس أكثر من نشاط من الأنشطة التى نصح الشعب المصرى بمزاولتها فى أوقات الفراغ وهى القراءة، والتصوير، ولكن أيضا أجلس على المقاهى بمفردى وبرفقة الأصدقاء وعادة ما يكون الوقت مثمرا إما بالحوار أو لعب الطاولة، بل وحتى الصمت فى رحابة الونس.
ونزولى أنا ومن أعرفهم للجلوس فى المقهى ليس لأن الزوجات لا تعرفن كيف تجعلن المنزل مريحا، وإنما لأن المقهى هو المساحة العامة المتاحة لنا وبأسعار يمكن تحملها، فالأندية الرياضية التى يتحدث عنها كاتبنا لم تعد فى متناول المواطن العادى ــ وربما لم تكن فى متناول المواطن العادى حينها أيضا ــ بل صارت تحتاج إلى ثروة صغيرة للانضمام إليها، ناهينا عن عدم وجود ما يكفى منها بالأساس لاستيعاب الأجيال الجديدة.
ولكن ما استوقفنى تأمله هو نصيحته بالانتظام فى جماعة ذات أهداف «سامية» هل كان يقصد بها حينها الأحزاب مثلا، أو الحركات السياسية، على كل حال هذه الأشياء كانت فى الماضى، ولم يعد لها وجود حديثا، وأخيرا «فلاحة البساتين» لا أعرف بالضبط ما يقصده، ولكن هل ربما يتحدث عن الحدائق الملحقة بالفيلات خاصة أنه يخاطب أبناء عام ١٩٥١؟
أبتسم فى ساعة التأمل الحارة على تلك النصيحة، فنحن الآن لا نملك حتى حدائق عامة نخرج إليها، فهى إما تم تطويرها إلى كبارى، أو مغلقة لسنوات بحجة تطويرها أيضا، ولكن أنا شخصيا لدى عدد من الصبارات فى البلكونة أرعاها بدأب ولكنها لا تحتاج منى إلا دقائق كل عدة أيام، فلا يمكن اعتبارها ممارسة لتزجية وقت الفراغ أو تسميتها بفلاحة البساتين.
•••
ختاما لا أريد أن أبدو سوداوية متشائمة، فعلى الرغم من جميع التحديات لا تزال مصر محفوظة، هكذا أعزى نفسى، ولا أجد كلمات لنهاية مقالى أفضل من كلمات الكاتب الذى وصف مصر بـ«أرض خصبة لمن يريد أن ينظم وقت فراغه ويستفيد منه ولمن يريد أن يحصل على الصحة النفسية وتذوق لذة الحياة»، فلنتذوق لذة بلدنا.
كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات