حطيت لماما مانيكير - كارولين كامل - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 2:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حطيت لماما مانيكير

نشر فى : الإثنين 18 سبتمبر 2023 - 7:05 م | آخر تحديث : الإثنين 18 سبتمبر 2023 - 7:05 م

بعد أكثر من عشرين عاما من توقف أمى عن طلى أظافرها بالمانيكير، نجحت هذا العام فى ليلة عيد الميلاد أن أقنعها بأن تسمح لى بطلى أظافرها باللون الأحمر الذى كانت تحبه، ولكن نجاحى فى إقناعها الذى يستحق وصفه بالباهر لم يكن سهلا بل كان أشبه بالمناورة الشرطية، لأنها كانت تتهرب فحاصرتها حتى استسلمت فى النهاية.
• • •
بدأت حديثى معها بشخصيتى الصاخبة عادة فى التجمعات الأسرية، عن العلاقة بين البنت وأمها التى تحتاج دوما لتغذيتها بمشاركة أفعال حميمية تسعدهما، وكيف تنعكس تلك على نفسية كل منهما، ولمزيد من الإغراءات أخبرتها أن نفعل هذا ونحن نستمع إلى أغانى مطربها المفضل بهاء سلطان الذى عشقته منذ أن خرج علينا بأغنيته «يا ترى» وتحفظ كلمات أغانيه وترددها معه، انتظرتْ حتى انتهيت من كلامى، وأخبرتنى أن سعادتها الحقيقية تتلخص فى رؤيتنا نحن سعداء.
جادلتها أن لا تناقض بين سعادتنا وبين أن تكون هى سعيدة بشخصها ولنفسها، واقتبست من حوار سلطان مع والدته فى مسرحية العيال كبرت عندما أخبرها أنهم جميعا سعداء ويشعرون بالشبع لتناولهم الطعام الذى تعده لهم، ولكن وحدها أمهم لا تبحث عن سعادتها الشخصية، ضحكت أمى كعادتها عندما نتبادل أنا وأشقائى إفيهات الأفلام والمسرحيات، ولكنها تمسكت برأيها وقالت لى «أنا كبرت على الكلام ده».
رفعت حاجبى وعوجت شفتى وقلت لها «مفيش حاجة اسمها الست كبرت فتبطل تعمل حاجة معينة»، تركتنى أمى لتكمل ما تفعله، طاردتها وألقيت عليها محاضرة أن ما تقوله هو كلام زرعه المجتمع الذكورى الذى يحصر المرأة المتزوجة فى دور الأم، ويسحب منها حقها فى أن تكون أنثى عندما تبلغ سنا معينة، ويسمح لها فقط أن تعيش فى إطار من المحافظة الصارمة بحجة أنها كبرت على دلع الحياة ولا يليق بسيدة محترمة أن تعيش خارج هذا الإطار.
كانت أمى تهمهم ردا على كلامى، فسألتها عن رأيها، ضحكت وأخبرتنى أنها لم تنتبه إلى كلامى، فسألتها عن رأى والدى فى أن تتزين بالمانيكير من أجله، وعدت مرة أخرى إلى استحضار مشاهد مسرحية العيال كبرت، فتنهدت أمى وقالت لى بنبرة عميقة «ده زمنكم.. هناخذ زمنا وزمن غيرنا ليه»، ضحكت وقلت لها «ما تاخدوا يا ماما من الزمن براحتكم».
• • •
من خلال زيارات صديقات أمى، وغيرهن من النساء فى حياتى، أرى كيف يعيش هؤلاء النسوة فى نوع من الزهد بحجة أنهن أمهات، خاصة بعد أن يخرجن على المعاش من وظائفهن الحكومية، يشترين ملابس جديدة ولكنها باهتة خالية من الألوان والبهرجة، وكأن حياة النساء فى مصر بعد الستين قاصرة على الأبيض والأسود.
فى الوقت الذى تزهد فيه هؤلاء النسوة ــ ومنهن أمى ــ «الدندشة والنعنشة» فى الحياة الواقعية، يجلسن فى ترقب يراقبن الحياة على السوشيال ميديا، وأرى ذلك فى المنشورات التى تشاركها أمى وغيرها من صديقاتها، والتعليقات على ملابس وشكل النساء من الممثلات والشخصيات العامة، وهو ما يدل على أن مباهج الحياة تشغلهن، ولكنهن اخترن اعتزالها، لأن لديهن تصورا أن هذا ما يليق بسيدة بدأت عقدها السابع.
فى هذا اليوم لم أيأس من إقناع والدتى بأن تسمح لى بطلى أظافرها، وفهمت أن هذا الجيل يحتاج إلى استراتيجية مختلفة عن الحديث معهن بالمنطق، لأن كلامنا الذى يحمل طابعا نقديا وفلسفيا بشكل ما يزيدهم عندا وإصرارا، ومن واقع الخبرة والتجربة هن تحببن عقد الصفقات، بمعنى شىء فى مقابل شىء آخر، اقتربت منها وهى تشد ملاءة الفراش، وقلت لها «عايزة إيه منى فى مقابل أحط لك مانيكير».
لمعت عينا أمى، تركت الملاءة، ابتسمت وأرخت النظارة قليلا على أنفها، وقالت لى «تغسلى مواعين العشا بتاعت ليلة العيد»، فى لحظة تحولت أمى الملائكية الزاهدة إلى لوسيفر الذى يعقد صفقات شيطانية يشترى بها أرواح الضحايا، وتبخرت مقولتها أن سعادتها من سعادتنا، وطلبت منى أن أقوم بأكثر نشاط أمقته وهو غسيل المواعين فى الواحدة من منتصف الليل بعد قداس ليلة العيد، الليلة المشبعة بالدهون والحلل الكبيرة وغيرها من الأوانى، لم أنهر أمام طلبها، ولكن كعادتى ابتسمت وقدمت المشيئة حتى لو لدى شكوك فى قدرتى على إتمام الفعل، ووافقت على الصفقة.
جلست أمى على الأريكة، وجلست أنا على الأرض قررت أن أطلى أظافر قدميها أولا، وبعد أن انتهيت جلست بجوارها وطلبت منها أن تمد يدها وتضعها على ركبتى، رأيت يد أمى، يد طيبة تبذل مجهودا كبيرا فى مقابل راحتنا، بحجة ترددها لنا «أصل محدش هيعرف يعمل الحاجات زى ما أنا بعملها».
اشتكت أمى أن أظافرها لم تعد جميلة، فقلت لها «بالعكس يا ماما دى جميلة خالص»، نازعتنى الشجون وشعرت برغبة عميقة فى البكاء وتقبيل يدها التى لا تحتاج إلى تزيين، هى جميلة، هى يد أمى.
• • •
تذكرت المرات التى كنا نجلس أنا وشقيقتى وتطلى هى لنا أظافرنا بالمانيكير، كانت سعادتنا لا توصف، فتدليل أمى لنا من المرات القليلة، لأنها كانت سيدة صارمة «ناظرة المدرسة»، ولكن اليوم وأنا أكتب المقالة أجد أن حتى الذكريات تلك رغم قلتها لاتزال حية ودافئة.
انتهيت من مهمتى ونظرت إلى يدى ويدى أمى المطليتين بالأحمر، وشعرت بالانتصار، ليس لأنى طليت أظافرها، ولكن لأنى حظيت بالفرصة أن أقترب منها بهذا الشكل الحميمى، ربما لن توافق مرة أخرى، ولكن تبادل الأدوار يجعلنا نرى الحياة بمنظور آخر، فهى اليوم تجلس بين يدى أنا لأدللها، وسألت نفسى كيف نتأخر فى اكتشاف تلك التفاصيل وحلاوة هذا القدر من الود مع من نحبهم.
كنت أتمنى أن تنتهى الليلة بإتمام جانبى من الصفقة وأغسل المواعين، ولكنى طلبت تأخير غسلها من الليل إلى نهار اليوم التالى، وافقت أمى، ولكن فى الفجر سمعت صوتا قادما من المطبخ، انتفضت من الفراش، فكانت أمى كعادتها تستيقظ فى المناسبات باكرا، رأيتها تغسل المواعين أخبرتها بتأثر أنى ملتزمة باتفاقنا، ضحكت وقالت لى «بس يا بت.. اقعدى معايا وشغلى لى بهاء سلطان».

كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات