شعرت بالسعادة لدى سماع نبأ اختيار السيد السفير محمد العرابى، وزير خارجية مصر الأسبق ورئيس المجلس المصرى للشئون الخارجية رئيسًا لمنظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية، هذه المنظمة التى لعبت أدوارًا مهمة على مدى تاريخها فى خدمة نشأة وتطور حركة شعبية غير رسمية وغير حكومية للتضامن بين شعوب قارتى إفريقيا وآسيا على مدى ما يقارب من سبعة عقود من الزمن، لكنها بالقدر ذاته لعبت دورًا إيجابيًا كأحد مصادر قوة مصر الناعمة على الصعيدين الإفريقى والآسيوى، بل وعلى صعيد بلدان الجنوب بأسرها، بل وعلى الصعيد العالمى ككل، على مدى نفس تلك الفترة، حيث إن مقرها الدائم منذ البداية كان فى العاصمة المصرية القاهرة، وتعاقب على تولى رئاستها عدد من الشخصيات المصرية المهمة، كما سنتعرض له فى جزء تالٍ من هذا المقال.
وقد جاء تأسيس المنظمة كإحدى نتائج قمة باندونج الأفرو آسيوية الشهيرة التى التأمت فى الفترة ما بين 18 و24 أبريل 1955، والتى شارك فى أعمالها 304 مشاركًا كانوا يمثلون 29 دولة كانت قد حصلت بحلول ذلك الوقت على استقلالها فى قارتى إفريقيا وآسيا، وكان من أبرز المشاركين عى أعمالها الزعيم الهندى الراحل جواهر لآل نهرو، والزعيم الصينى الراحل جو إين لاى، والزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر، والزعيم الإندونيسى الراحل أحمد سوكارنو. وتجدر الإشارة إلى أن مصر دعيت إلى مؤتمر باندونج بصفتها تجمع بين كونها دولة إفريقية ودولة آسيوية فى آن واحد، وذلك لوجود شبه جزيرة سيناء فى قارة آسيا.
وجاءت التسمية الأصلية والأولى للمنظمة باسم مجلس تضامن الدول الآسيوية والإفريقية عند تأسيسها فى عام 1957، وهو الاسم الذى انعقد به المؤتمر الأول للمنظمة فى نهاية ديسمبر 1957 ومطلع يناير 1958، وانعقد فى العاصمة المصرية القاهرة، إلا أن الاسم الرسمى سريعًا ما تغير إلى المسمى الحالى، أى منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية، بهدف أن يعكس طبيعتها كمنظمة غير حكومية دولية تعبر عن شعوب إفريقيا وآسيا وليس عن حكومات بلدان القارتين، وتم اعتماد وتكريس هذه التسمية الثانية والنهائية للمنظمة فى مؤتمرها الثانى والذى انعقد فى العاصمة الغينية كوناكرى فى أبريل 1960.
وكان أول رئيس مصرى للمنظمة هو الزعيم المصرى الراحل محمد أنور السادات، والذى استمر فى رئاسة المنظمة حتى اختياره من قبل الزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر نائبًا لرئيس الجمهورية فى عام 1969، وهو الأمر الذى أكسب الرئيس الراحل السادات علاقات قوية مع العديد من زعماء إفريقيا وآسيا. وعلى صعيد المنظمة ذاتها، فقد لعبت دورًا محوريًا خلال عقدى الخمسينيات والستينيات كأداة من أدوات دعم حركات التحرر فى الدول الإفريقية ضد الاحتلال الأوروبى بأنواعه: البريطانى والفرنسى والإيطالى والبلجيكى والإسبانى والبرتغالى، بل إنها أدت دورًا مهمة كقناة تم من خلالها تمرير المساعدات والتدريب، بما فى ذلك التدريب العسكرى، للكثير من حركات التحرر تلك، بالإضافة إلى دور المنظمة العام فى توفير المنح الدراسية فى مصر وفى غيرها من بلدان إفريقيا وآسيا الأكثر تقدمًا نسبيًا فى المجالات التعليمية والدراسية المختلفة، خاصة فى مصر، لطلاب وكوادر من البلدان الإفريقية والآسيوية الأقل تقدمًا نسبيًا فى هذه المجالات أو تلك حديثة الاستقلال.
وقد تعاقب بعد ذلك على رئاسة المنظمة عدد من الشخصيات المصرية التى كان لها باع طويل فى العمل العام فى مختلف المجالات، أذكر منهم الكاتب والأديب والصحفى الراحل يوسف السباعى، وهو أيضًا أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، الذى قام بثورة 23 يوليو 1952 فى مصر، والذى استمر فى رئاسة المنظمة حتى استشهاده فى قبرص أثناء حضوره المؤتمر السادس لمنظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية فى فبراير 1978، حيث تعرض للاغتيال من قبل عنصرين من أعضاء تنظيم فلسطينى متطرف كان يقوده «أبونضال» فى إطار موجة عمليات إرهابية استهدفت شخصيات مصرية رسمية عبرت عن تأييدها لزيارة الزعيم المصرى الراحل أنور السادات للقدس فى نوفمبر 1977، فيما عرف بـ«مبادرة السلام»، حيث كان الأستاذ يوسف السباعى يشغل أيضًا فى نفس ذات الوقت منصب وزير الثقافة المصرى مع رئاسته لمنظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية، بالإضافة إلى كونه واحدًا ممن صاحبوا الرئيس الراحل فى زيارته للقدس.
وتولى رئاسة المنظمة عقب ذلك الكاتب والروائى والأديب الكبير الراحل الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، الذى له بصمات لا تنسى فى تطور الأدب والمسرح العربيين، وهو الذى لعب دورًا مهمًا فى ربط الأدب المصرى والعربى الحديث والمعاصر بكل من التاريخ العربى والإسلامى، من منظور تقدمى، من جهة، وبالواقع الاجتماعى المصرى وصراعاته وجدلياته المعقدة فى التاريخ الحديث والمعاصر من جهة أخرى، وهو أيضًا من الشخصيات العامة المهمة التى لعبت أدوارًا متعددة الأبعاد فى المجتمع المصرى والثقافة والفكر المصريين على مدى عقود، كما أنه يعتبر من العلامات البارزة فى مسيرة اليسار المصرى. واستمر الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى فى منصب رئيس المنظمة حتى رحيله عن عالمنا فى عام 1987.
وأعقب ذلك تولى الراحل الكبير الدكتور مراد غالب، وزير الخارجية المصرى الأسبق، رئاسة المنظمة، وهو الذى استمر فى هذا المنصب لمدة عقدين كاملين حتى وفاته فى عام 2007، والذى بدأ بشجاعة واقتدار فى العمل على معالجة واحدة من أهم التحديات التى تعرضت لها المنظمة منذ إنشائها، ألا وهى أزمة التراجع الكبير فى ميزانية المنظمة نتيجة تراجع كبير فى الإسهامات المالية للدول الإفريقية والآسيوية، بسبب ظروف انتهاء الحرب الباردة وشعور بعض حكومات البلدان الإفريقية والآسيوية بأن أفكار التضامن الأفرو آسيوية كانت مرتبطة بروح باندونج وبصعود نجم حركة عدم الانحياز، التى اعتبرتها بعض تلك الحكومات أنها تجاوزتها التطورات العالمية، كما أن بعض تلك الدول شعرت بأن الموضوعات التى تتناولها المنظمة لم تعد متواكبة مع التحديات التى تواجهها تلك البلدان فى عالم ما بعد الحرب الباردة.
وأتعرض هنا لمثال كنت شاهدًا مباشرًا عليه، وهو قرار المنظمة تحت رئاسة الدكتور مراد غالب رحمه الله، وبدور كبير للمفكر والفيلسوف المصرى الراحل الكبير الأستاذ محمود أمين العالم، أنه فى ظل تصاعد أهمية موضوع العلاقة فيما بين الحضارات والثقافات والأديان فى فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة بدءًا من تسعينيات القرن العشرين، فقد نظمت المنظمة مؤتمرًا دوليًا حول هذا الموضوع فى مقر المنظمة فى القاهرة فى مارس 1997، شارك فيه مئات المشاركين من مختلف أنحاء العالم، وكان من المشاركين الزعيم الجزائرى الراحل أحمد بن بلة وعدد من الشخصيات المصرية والعربية والعالمية رفيعة المستوى فى مختلف مجالات النشاط الإنسانى، وكان لى شرف تلقى الدعوة للتحدث أمام المؤتمر حول تأثير العقوبات الدولية على الدول، سواء تلك المفروضة من منظمات دولية أو إقليمية أو أحادية من الدول، على العلاقة فيما بين الحضارات والثقافات، وحقق المؤتمر نجاحًا دوليًا منقطع النظير.
وعقب وفاة الدكتور مراد غالب، تولى مسئولية المنظمة الدكتور حلمى الحديدى، والذين كان من أقطاب حزب العمل الاشتراكى المعارض فى مصر منذ تأسيسه فى سبعينيات القرن العشرين، ثم انتقل إلى صفوف الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم وتم تعيينه لفترة ما فى عهد الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك وزيرًا للصحة، وقد واجه خلال فترة رئاسته للمنظمة العديد من الأزمات التمويلية التى تضاعف تأثيرها السلبى على نشاط المنظمة، بالرغم من محاولاته لتأمين موارد جديدة أو لتعزيز الموارد الموجودة بالفعل.
وجاء اختيار السفير محمد العرابى، وزير خارجة مصر الأسبق، ورئيس المجلس المصرى للشئون الخارجية، لرئاسة المنظمة، ليدشن مرحلة جديدة وشديدة الأهمية من تاريخ المنظمة، وليفتح آفاقًا واسعة ورحبة أمام عمل المنظمة فى المستقبل، فى ضوء شبكة علاقات السفير محمد العرابى العالمية الثرية والمتنوعة، وطبيعة شخصيته الديناميكية ومنهجه فى التفكير العملى والمرونة فى التعامل مع البدائل، وهو الأمر الذى يبشر بلا شك بعملية إحياء شاملة للمنظمة ودورها تتناول كل المجالات ذات الاهتمام اليوم لشعوب إفريقيا وآسيا، وهى قد اتسعت وتنوعت وتشعبت مع تعقد المشكلات وتصاعد الطموحات، كما يبشر ذلك بعملية تنشيط تعيد ضخ الدماء فى عمل المنظمة وفعاليتها وانتشارها فى مختلف ساحات العمل الدولى معبرة عن مواقف شعوب إفريقيا وآسيا، وكذلك انتشارها داخل بلدان القارتين بما يجعلها وثيقة الصلة باهتمامات الشعوب وطموحاتها وإحباطاتها، وكل ذلك آمال كثيرة، لكنها تتعلق بشخصية قادرة على العمل من أجل تحقيقها، إذا ما توافرت النوايا الحسنة والدعم الفعال من بلدان إفريقيا وآسيا للمهمة الجديدة والجليلة والتاريخية للسفير محمد العرابى.