عن ذاكرتنا المحفورة - أمل حمادة - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن ذاكرتنا المحفورة

نشر فى : الإثنين 2 يونيو 2014 - 8:05 ص | آخر تحديث : الإثنين 2 يونيو 2014 - 8:05 ص

فى الوقت الذى يتأكد يوما بعد يوم الحرب التى تشنها جماعات ومؤسسات وأفراد على الموجة الأولى من الثورة المصرية فى يناير 2011 يبدو من الأهمية بمكان التمسك ليس فقط بمبادئ الثورة التى عبر عنها مجموعات شبابية غير منظمة فى البداية وتمسك بها الملايين وحلموا بها. ولكن من الضرورى التمسك بروايتنا للتاريخ وذاكرتنا المحفورة التى تروى قصتنا فى البحث عن الحرية والعدل والكرامة والخبز دون أن ننشغل بالصراع على الكرسى الذى شغل القوى السياسية عن الملايين الهادرة فى الشارع.

تروى الأسطورة أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن المهزوم ليس أمامه إلا أن يجتر جراحه وهزيمته فى صمت محاولا تجاوزها أو التخطيط للجولة القادمة طامعا فى النصر. ويدعم هذه الأسطورة حفريات وجداريات ومخطوطات تحكى عن بطولة المنتصر فى الميدان وقدرته على دحر الأعداء. وتصور المدن والقرى تحتفى بالمنتصر العائد من المعركة وعلى رأسه أكاليل الغار وتحت قدميه المهزوم متمرغا فى العار. وتمتلئ كتب التاريخ بقصص الثورات الناجحة والتى يتوج نجاحها بوصول الثوار إلى الحكم مسطرين بذلك فصلا جديدا فى تاريخ دولهم ومجتمعاتهم وأحيانا العالم كله.

يحاول عدد من الباحثين التنقيب عن الروايات الأخرى للتاريخ، ليس فقط رواية المهزوم ولكن رواية من تمارس عليهم السلطة أو من يكونوا موضوعا للسلطة، ومن أشهر هؤلاء الباحثين فى السياق المصرى والعربى خالد فهمى الأستاذ الجامعى الذى كرس سنوات عديدة لإعادة النظر فى تاريخ نشأة الدولة المصرية الحديثة واكتشاف الرواية الأخرى للتاريخ؛ رواية الفقراء والضعفاء والجنود. وعرض فهمى عمله من خلال كتابين شديدى الأهمية فى قراءة تاريخ مصر الحديثة. الأول كتابه الذى صدر فى مطلع الألفية الثانية «كل رجال الباشا» والثانى الذى صدر فى عام 2005 بعنوان «الجسد والحداثة: الطب والقانون فى مصر الحديثة» يحاول فهمى فى الكتابين استكمال عناصر الصورة الناقصة عن نشأة مصر الحديثة والتى تركز معظم الكتابات إن لم يكن كلها على تأريخ دور الأسرة العلوية الحاكمة والتحديات الداخلية والخارجية التى واجهتها. ويحاول فهمى فى هذين الكتابين تتبع روايات مهجورة على مستويين. الأول هو مستوى من ساند السلطة فى بناء هيكلها وهيكل الدولة، أى الأطباء والضباط والقضاة ورجال الشرطة. والمستوى الثانى هو مستوى الرعايا أو المواطنين فى علاقتهم بالسلطة خلال مراحل بنائها أو مراحل تسيدها، فيحاول تتبع خطابات وروايات الجنود والمرضى والمجرمين والمتهمين.

لا يمكن اعتبار خالد فهمى حالة فردية وإنما هو جزء من تيار يتشكل يحاول البحث عن التاريخ البديل لرواية السلطة، ويعتمد فى بحثه على الروايات الشفهية، وأغانى الفلكلور، والصور الشخصية، ومذكرات الناس العاديين والخرائط القديمة للمدن والأحياء. ويشكل هذا مادة خصبة للمؤرخين لقراءة علاقة الناس بالسلطة وليس علاقة السلطة بالناس، هذا المنظور يضع البشر فى موقف الفاعل فى التاريخ بدلا من كونهم المفعول بهم أو المفعول فيهم من قبل السلطة والنخبة. ولكن ما يؤخذ عليه هو حضور السلطة حتى ولو بشكل سلبى على حساب ما يمكن أن نطلق عليه التاريخ الاجتماعى للبشر فى تفاعلهم مع بعضهم البعض ومع المكان.

واحد من أهم التحديات التى تواجه الثورة المصرية بموجاتها المتلاحقة منذ 2011 هو تحدى من سيكتب التاريخ؟ الهاجس أن الثوار لم يصلوا إلى الحكم وأنهم يتعرضون للتشويه المتعمد بشكل دائم وبالتالى فالتاريخ لن يذكرهم كباحثين عن العيش والحرية والكرامة الإنسانية بل كجزء من مؤامرة كونية على مصر. ولكن ما يرد على هذا الهاجس هو أننا نعيش فى عصر الروايات المتعددة للتاريخ ولا مجال لاحتكار رواية واحدة عما حدث وما يحدث حولنا. عصر وسائل الاتصال السريعة، ووسائط التواصل الاجتماعى، وصحافة المواطن والإعلام البديل الذى يتطور بعيدا عن التحالف التقليدى بين شبكات الدولة ورجال الأعمال. الجدران حولنا تمتلئ برواياتنا المتصارعة والمتنافسة والمتصادقة لتاريخ المكان والبشر. الفضاء الإلكترونى يموج بآلاف الروايات التى تشكل ذاكرتنا. هذه الضوضاء والزحام فى الصور والمعانى والأغانى والنكت والأفلام تشكل فى حقيقة الأمر أساسا لتاريخ يتشكل ويصنع على أعيننا.

من هذه الصور والهتافات ثلاثة شكلوا وعينا خلال السنوات الثلاث وكثفوا معانى وقيم التوق للحرية والعدالة والكرامة. «جدع، جدع» صوت نسائى صاحب فيديو قصير لشاب عشرينى أو ثلاثينى لا يهم عمره، يقف بثبات يديه على خصره وينظر فى عينى سائق عربة الشرطة فى يوم 25 يناير 2011. لم نعرف اسمه ولم نر وجهه ولم يترشح فى الانتخابات أو يعرف بتأييده لمرشح معين فى أى من الاستحقاقات الانتخابية التى مرت بمصر فى الفترة الماضية.

«نزل العلم، نزل العلم ....أول مطلب للجماهير، قفل سفارة وطرد سفير.............. إيه ده بصوا بصوا، ربنا يحميه، ربنا يحميه « أصوات فرحة صاحبت فيديو لشاب عشرينى أو ثلاثينى لا يهم عمره، يتسلق واجهة المبنى الذى كانت تقع فيه السفارة الإسرائيلية على كوبرى جامعة القاهرة. فيما يقرب من عشرين دقيقة ليسوا من زمن هذه الحياة، صعد هذا الشاب لينزع علم إسرائيل من على أعلى المبنى ويضع مكانه علما صغيرا لمصر. قليل منا من يتذكر اسم هذا الشاب، أو يمكنه التعرف عليه فى الشارع إذا وقف أمامه فى طابور اللجنة الانتخابية أو جلس بجواره على المقهى ساخرا ويائسا من المشهد السياسى بالكامل.

«ارفعى راسك، ارفعى راسك. انت أشرف من اللى داسك» هتاف الآلاف فى الميادين شدا من أزر ست البنات بعد أن أهينت مرة على يد الجنود الذين ضربوها وجردوها من عباءتها، ومرات على لسان من تساءل عن إيه اللى وداها هناك. مشروع وليس شرعيا هو التساؤل عما الذى دفع هذه الفتاة التى لم نعرف لها اسما ولا رسما ولا انتماء سياسيا أو اجتماعيا. ولا نعلم إذا ما كانت الرواية الرسمية للتاريخ ستذكرها باعتبارها جزءا من المؤامرة التى تورط فيها بوعى أو بغير وعى شباب طاهر ضد الدولة المصرية، أم سيذكرها باعتبارها رمزا لجيل كامل حلم بواقع أفضل له ولغيره فى وطن قادر على احتضان تنوعه والاحتفاء به؟

الرواية الرسمية للسنوات الثلاث الماضية وللقادم القريب غالبا ما ستكون انعكاسا لصراعات وتوازنات سياسية داخلية وخارجية يخرج منها طرف غالب يكون قادرا على محاولة كتابة التاريخ بروايته. وسيظل الطرف المغلوب مصرا على روايته المخالفة والتى تستصحب المظلومية التاريخية والمؤامرة الكونية مبررا وداعمة له. وستظل ملايين تقبض على ذاكرتها المحفورة والتى لا تعنى برواية المتصارعين، ولكنها ترى نفسها جزءا من وعى يتشكل ورواية تكتب عن تاريخ « اللى ملهموش فى السلطة» وستكون الجدران والشوارع والأغانى والمعانى والفضاء الالكترونى كتبنا الجديدة للتاريخ.

المجد لتاريخ الناس.

أمل حمادة مدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات