منذ بضعة أيام، وأثناء زيارتى لدائرتى فى أسيوط (والتى لم أعد نائبها الرسمى منذ صدور الحكم بحل مجلس الشعب) التقيت شابا من قرية مجاورة اشتكى لى من مأزق وقع فيه، فقد كان قد اقترض ألفا وخمسمائة جنيه من أحد البنوك لإقامة مشروع صغير فى منزله، وتعثر المشروع، وطالبه البنك بسداد المبلغ وفوائده (اللذين بلغا نحو ألفى جنيه). فلما عجز الشاب عن السداد، وكان قد قام بتقديم شيكات للبنك، صدر ضده حكم بالحبس ثلاثة أشهر من محكمة جنح المركز. استوقفنى الشاب لمعرفة ما الذى بيده أن يفعله لتجنب الحبس، فاضطررت لإخباره أنه لا يوجد ما يمكن عمله حيال حكم صادر من المحكمة سوى التنفيذ، وأن عليه السداد أو مواجهة الحبس. المؤسف بالفعل أن هناك ظلما وقع عليه لا جدال: فالمشروع تعثر لأسباب خارجة عن إرادته، والتعثر لا يجب أن يؤدى الى الحبس ما لم يقترن بنصب أو سرقة، ولكن توقيعه على شيكات بدون رصيد يجعل الحكم بحبسه حتميا ولو كان ظالما.
فكرت فى حالة هذا الشاب ــ وآلاف مثله منتشرون فى طول مصر وعرضها ــ وانا أتابع الحوار الدائر حول حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، وما اذا كان واجب الاحترام والنفاذ أم لا. الاحتجاج ضد الحكم لا يزال مستمرا، لأن جانبا لا يستهان به من الرأى العام ومن القوى السياسية يرى أنه كان حكما معيبا من الناحية القانونية، وأنه كان مدفوعا برغبة المجلس العسكرى فى حل المجلس تحسبا لفوز مرشح الاخوان المسلمين بالرئاسة، وأن الواجب عدم تنفيذه (أو على الاقل إعادة انتخاب الثلث الفردى فقط). شخصيا كنت قد انتقدت قانون الانتخابات واعتبرته معيبا لأكثر من وجه، وبالتالى فلم يدهشنى الحكم من الناحية القانونية، وإن كنت أعتقد أن المحكمة الدستورية كان بوسعها الاكتفاء بحل ثلث المجلس فقط، كما أن توقيت صدور الحكم بهذه السرعة وقبل انتخابات الرئاسة ببضعة أيام كان توقيتا غير مريح.
ولكنه مع ذلك يظل حكما نهائيا صادرا من أعلى محكمة فى البنيان القضائى المصرى، وفى هذا وحده ــ من وجهة نظرى ــ ما يحتم احترامه وما يجعل تجاهل تنفيذه هدما لمصداقية المحكمة الدستورية العليا ولمبدأ سيادة القانون برمته. المحاكم تخطئ وتصيب كل يوم، ويترتب على قضائها أحكام بالحبس، وبالتعويض، وبالطلاق، وبحضانة الاطفال، وكلها أحكام تؤثر فى حياة ملايين الناس وتمنحهم فرصا جديدة او تحرمهم من حقوق ربما يستحقونها، ولكنها تظل أحكاما قضائية واجبة النفاذ ليس لأنها بالضرورة سليمة ولكن لأنها أحكام قضائية نهائية وهذا يكفى. قد يمكن الطعن على الحكم القضائى، وقد يمكن طلب وقف تنفيذه، وفى جميع الأحوال (على عكس ما يشاع) يجوز انتقاده، ولكن ما لا يجوز هو الامتناع عن تنفيذه لمجرد أن هناك اعتراضا على توقيته أو على سلامة حجته. تصوروا ماذا يحدث لو اختار كل واحد منا أن يستجيب للحكم الذى يعجبه ويمتنع عن تنفيذ الأحكام التى لا تأتى على هواه. هذا هو ما تفعله الأحزاب والقوى السياسية حينما تقبل وترحب بالأحكام التى تتفق مع مطالبها السياسية وتقيم الحرب على تلك التى تعترض طريقها الى السلطة. هذه انتقائية خطيرة، تهدد بتقويض فكرة العدالة من أساسها، وتفتح الباب لاستهتار المجتمع بدولة القانون على نحو قد يحقق مطالب جماهيرية فى الأجل القصير، ولكنه يقوض أساس الدولة الحديثة ويفتح الباب لاستبداد من نوع جديد.
أعلم أن الرد سيكون أننا نعيش فى أعقاب ثورة شعبية عليها أن تهدم أسس الفساد فى النظام القديم وأن تنشئ على أنقاضه مجتمعا جديدا، وأن الشرعية الثورية يجب أن يكون لها أولوية على الشرعية القانونية، وأن القانون الذى كان أداة للظلم لا ينبغى أن يتحول إلى عقبة أمام تحقيق الثورة لأهدافها. كل هذا كلام جميل لو كان متسقا مع نفسه، ولكن ما يقلقنى مرة أخرى هو الانتقائية فى التعامل مع القانون، فيكون معبرا عن الثورة أحيانا، ويكون خصما لها ويجب تجاهله فى أحيان أخرى، لا يفرق بينها إلا مصلحة الأحزاب والقوى السياسية فى الوصول والتمسك بالسلطة.
وأعود إلى صديقى صاحب الدين المتعثر، فلحسن الحظ ان الصعيد لا يزال فيه خير، وأن القرية جمعت له المبلغ المطلوب حتى يتجنب الحبس وما يترتب عليه من طرده من العمل وتشريد أسرته، وانتهت أزمة الرجل وأسرته الصغيرة نهاية سعيدة، لأن أبناء قريته وقفوا معه. ولكن لو لم تكن القرية قد ساندته على هذا النحو، ماذا يكون مبرر تنفيذه لحكم بالحبس بينما نواب مجلس الشعب لا يقبلون حكما صدر ضد مجلسهم؟ ولماذا نتصور أن يحترم الناس القانون وهم يرون المسئولين عن صنع القانون يرفضون تنفيذ حكم نهائى من أعلى محكمة فى البلاد؟ وكيف نعيش فى مجتمع يعتبر أن الأحكام القضائية اختيارية، ننفذ منها ما يعجبنا ويناسبنا ونتجاهل ما لا نحبه منها؟
يؤسفنى للغاية ألا أكون قادرا على تمثيل دائرتى فى مجلس الشعب بعد كل التعب وكل الجهد وكل السهر والعمل المضنى، ولكن أتصور أن التضحية بمقعد نيابى ــ وبالنسبة لحزب الحرية والعدالة بالأغلبية البرلمانية التى استحقها نوابه بجدارة ــ أهم بكثير فى هذه اللحظة الفارقة من التضحية بفكرة القانون وبمكانة القضاء. الانحياز لاحترام حكم المحكمة الدستورية العليا ــ ولو كان حكما خلافيا ــ سيعبر عن تقديم دولة القانون على الصراع على السلطة، وهذا موقف تاريخى ستتذكره الأجيال المقبلة وتفخر به، وسيقال إن مصر احترمت قضاءها وأحكامه، وحفظت للقانون مكانته فى المجتمع. أما الانتخابات، فيمكن اعادتها مرة أخرى وسيفوز بها من يستحق الفوز، ولكن لو ضربنا بالحكم الدستورى عرض الحائط فسنكون جميعا من الخاسرين.