عندما غيب الموت «شيمون بيريز» تبدى سؤال إسرائيلى غريب بمنطوقه ومغزاه: «لماذا يصمت العالم العربى؟»، كأنه يفترض أن الخسارة فيه فادحة كواحد من صناع السلام.
لم يكن ممكنا طرح سؤال الصمت، ولو بخداع الذات، لو أن الحقائق وحدها تحدثت.
فـ«بيريز» الذى حصل على جائزة «نوبل للسلام» عام (١٩٩٤)، مع الزعيم الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» ورئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت «إسحاق رابين»، هو نفسه الذى أمر بعدها بمجزرة «قانا» التى استهدفت مدنيين عزلا احتموا بمقر للأمم المتحدة من الغارات الوحشية جنوب لبنان.
كانت المجزرة مروعة وأثارت صورها غضبا فى أوساط الأمم المتحدة، التى أجرت تحقيقا أدانها بلهجة غير معهودة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الإسرائيلية.
على إثر التقرير الأممى الذى وثق لجريمة مكتملة الأركان «ضد الإنسانية» خرج أمين عام الأمم المتحدة الدكتور «بطرس غالى» شبه مطرود، إذ لم تجدد له ولاية ثانية كما تقضى الأعراف المتبعة مع كل الذين تولوا منصبه ــ قبله وبعده، بينما حافظ القاتل على صفة «رجل السلام»، كأن المقصود أن تكون هناك مسرحية ما يصدقها الجمهور بطول الإلحاح لاصطناع أبطال مزيفين أو إدخال القتلة فى دائرة الأبطال.
ولم يكن ممكنا طرح سؤال الصمت فى أية أحوال طبيعية، فالعالم العربى منقسم على نفسه والحرائق تشتعل فيه وخرائطه معلقة على ما بعد الحرب مع «داعش» دون أن يكون لاعبا رئيسيا له كلمة أو رأى يعتد به عند تقرير مصائره.
هناك سببان متداخلان فى خلفية السؤال، أولهما: الإلحاح على صناعة الصور دون أن تسندها حقائق.. وثانيهما: العجز عن الوفاء بمتطلبات الدفاع عن قضية عادلة بأى معيار قانونى أو إنسانى.
بالإلحاح كان هناك من يريد فى إسرائيل والعالم أن يقدم «بيريز» كرجل «سلام بلا أرض»، بحسب وصف المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد» لاتفاقية أوسلو.
وبالعجز كان هناك من هو مستعد فى العالم العربى أن يصدق همسات السلام دون فحص، أو أن مخالب الصقور باتت أجنحة حمام، فالقضية الفلسطينية عبء عليه يود التخلص منها عند أول منعطف باسم سلام مراوغ لا يأتى أبدا.
قبل مراسم دفن «شيمون بيريز» قررت الحكومة الإسرائيلية من جانب واحد إطلاق اسم رئيس وزرائها الراحل «مناحم بيجين» على معبر طابا.
ربما طلب رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» شيئا من المساواة لملهمه «بيجين» مع غريمه «بيريز»، فإذا كان الثانى يوصف من قادة العالم بـ«رجل السلام» فإن الأول حصل مثله على جائزة نوبل مع الرئيس المصرى الراحل «أنور السادات» فى أعقاب المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية.
بأى تعريف كلاسيكى لمجرمى الحرب فإن «بيجين» فى صدارتهم.
فى حالة «بيريز» الأمر أكثر إرباكا، فهو مراوغ كثعلب، يتحدث عن السلام ويتبادل أنخابه مع قادة العالم، دون أن يقترب فى الجوهر من أية قيمة إنسانية.
أرجو أن نستعيد تصريحاته فى أعقاب اغتيال «إسحاق رابين» من أن «القدس سوف تظل موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل» و«المستوطنات سوف تستمر وتتوسع».
أراد أن يثبت تشدده وبدا مستعدا أن يدوس أى معنى للسلام بالأقدام الغليظة.
هو آخر وأخطر شخصية إسرائيلية من جيل مؤسسى الدولة، ارتبط بزعيمها «ديفيد بن جوريون»، وهو مثله مزيج من العنف والمخاتلة، عمل على إزالة شعب بأكمله من فوق أرضه بجرائم ضد الإنسانية، ثابتة وموثقة، وأشرف على بناء مفاعل «ديمونة» الذرى، وخطط للحرب على مصر عام (١٩٥٦) مع البريطانيين والفرنسيين بعد أن أممت قناة السويس، فضلا عن أنه أول من أطلق الاستيطان.
ذلك وجهه الحقيقى بلا أقنعة.
يكفى أن تراجع توجهات وصلات الشخصيات الدولية التى دخلت على ملف التسوية فى أوسلو وبعدها بمن فيهم «تونى بلير» رئيس الرباعية الدولية لتكتشف دون عناء أنهم جميعا «رجال شيمون بيريز».
إذا ما نظرت إلى النتائج فأنها لا تساوى شيئا على الإطلاق، حركة فى المكان ولا شىء يتحرك.
ذلك بالضبط نهج «شيمون بيريز».
ومن مفارقات التواريخ على أجندة الزمن أنه غادر الدنيا فى (٢٨) سبتمبر، نفس يوم رحيل «جمال عبدالناصر» قبل (٤٦) سنة.
لم تخف إسرائيل ابتهاجها برحيل عدوها الأول، ولم تكن مستعدة لأى رياء أمام العالم، بينما سؤال «شيمون بيريز» يبدو كاندهاش من مجرد الصمت العربى.
فى نفس اليوم (٢٨) سبتمبر عام (١٩٦١) جرى انفصال الوحدة المصرية السورية، وكان ذلك أحد مقدمات يونيو (١٩٦٧).
بتعبير رمزى لـ«جمال عبدالناصر» فإن أول دبابة تحركت ضد الوحدة كانت هى أول دبابة اقتحمت سيناء.
المصرى العادى رفض الهزيمة فى تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو المليونية التى امتدت إلى العالم العربى، عرض المقاومة ودعا «جمال عبدالناصر» إلى الوقوف من جديد وبناء القوات المسلحة من تحت الصفر وتصحيح الأسباب التى أدت إلى الهزيمة العسكرية، وخاضت مصر تحت قيادته حرب استنزاف توصف بأنها «بروفة أكتوبر».
بأى تقدير تاريخى فالبطل الحقيقى فى تلك الحرب هو المواطن العادى الذى قاتل على جبهات القتال الأمامية وعبر الجسور المشتعلة بالنيران بإيمان عميق بقضية تحرير سيناء.
يحسب للرئيس الأسبق «أنور السادات»، رغم كل الخلافات معه فى الإدارة السياسية للحرب، أنه اتخذ قرارها وتحمل مسئوليته.
فى تلك الإدارة السياسية تبدت ثلاثة خطوط حمراء أوصلتنا إلى النقطة التى يسأل فيها الإعلام الإسرائيلى مستغربا عن سر الصمت العربى على وفاة «شيمون بيريز».
الأول، ألا يكون هناك «عبدالناصر» جديد فى العالم العربى ومازالت خطوط ما بعد أكتوبر لها الغلبة فى السياسات المعتمدة.
ما يمثله «عبدالناصر» يتراجع بالتخويف وما يمثله «بيريز» يتقدم بالخداع.
الثانى، إن أكتوبر «آخر الحروب»، ولم يكن ذلك الخط من صياغة الرئيس «السادات» بقدر ما كان طلبا لا يرد من الولايات المتحدة راعية المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
رغم أن المدافع توقفت على جبهة سيناء إلا أن الحروب اتسع نطاقها من احتلال بيروت عام (١٩٨٢) إلى الحروب على الجنوب وغزة.
فى تلك الحروب أطل وجه «بيريز» على المشاهد الدموية صانعا للقرار أو شريكا فى السياسة دون أية اعتراضات على انتهاكات بشعة للقانون الدولى الإنسانى.
والثالث، ألا يسمح لمصر بثقلها الجغرافى والتاريخى والسكانى أن تسقط ولا أن تنهض.
فى سقوطها خطر لا يحتمل على الاستراتيجيات والمصالح الدولية وفى نهوضها قوة يصعب تحمل أدوارها القيادية فى حسابات الإقليم.
بتلخيص ما فإن «سؤال بيريز» يطلب الذاكرة المعتلة والسلام المخاتل وضياع كل حق.