كان قرار الولايات المتحدة بتعليق جزء كبير من مساعداتها لمصر، محور العديد من التعليقات، وذلك أمر طبيعى بالنظر إلى أن هذه هى المرة الأولى التى تقدم فيها الولايات المتحدة على خطوة كهذه، منذ أن تقرر حصول مصر على هذه المعونة فى عام 1979. إنما الأمر غير الطبيعى فقد تمثل فى مجموعة من الأخطاء، بعضها صدر عمن يعتبرون أنفسهم من العالمين ببواطن الأمر، والبعض الآخر جاء فى شكل تعليقات وتحليلات هى أبعد ما تكون عن الحقيقة.
الخطأ الأول الذى وقع فيه الكثيرون تمثل فى قولهم بأن هذه المعونة قد وردت الإشارة إليها نصا فى اتفاقيتى كامب ديفيد الموقعتين فى 17 سبتمبر 1978، أو فى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل الموقعة فى 26 مارس 1979. وحقيقة الأمر أنه لا اتفاقية كامب ديفيد ولا معاهدة السلام، قد تضمنت أى إشارة إلى هذه المعونة. أما منشأ هذه المعونة فيرجع إلى خطاب بعث به وزير الدفاع الأمريكى فى 23 مارس 1979 إلى نظيره المصرى، يعبر فيه عن استعداد الولايات المتحدة للدخول فى علاقات عسكرية ممتدة، من أجل توريد معدات حربية لمصر، مع تمويل أمريكا لجانب من هذه المعدات. وتعهدت الولايات المتحدة بتقديم معونة لمصر تصل إلى 1.5 بليون دولار للثلاث سنوات التالية. وجه وزير الدفاع الأمريكى خطابا مماثلا لنظيره الإسرائيلى تناول فيه حجم المعونة التى ستقدمها أمريكا لإسرائيل، والتى استقرت نسبتها إلى تلك المقدمة لمصر عند 3: 2 طوال الأعوام التالية.
اعتبرت الولايات المتحدة أن هذه المعونة هى بمثابة استثمار فى الحفاظ على الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، واعترافا بالدور المصرى فى التأثير على مجريات الأمور بالمنطقة، وكذلك أهمية معاهدة السلام لعام 1979. حافظت الولايات المتحدة على المعونة العسكرية لمصر عند مستوى 1.3 بليون دولار سنويا منذ ذلك الوقت، غير أن المعونات الاقتصادية تناقصت تدريجيا من 815 مليونا عام 1998 إلى 250 مليونا اعتبارا من عام 2010. وتجدر الإشارة إلى أن الكونجرس الأمريكى دأب منذ عام 2012 على أن يقرن المعونة لمصر بمجموعة من القيود، تمثلت فى ضرورة ان يشهد وزير الخارجية الأمريكى بأن مصر ماضية فى طريق تحقيق حكم مدنى ديمقراطى، يقوم على إجراء انتخابات حرة، وكذلك احترام الحكومة المصرية لحق التعبير عن الرأى، وحق ممارسة الشعائر الدينية. غير أن وزيرة الخارجية نحت جانبا هذه القيود عام 2012، وكذلك فعل وزير الخارجية عام 2013، على أساس أهمية الشراكة الاستراتيجية مع مصر فى الحفاظ على المصالح الأمريكية بالمنطقة.
أما الأمر الآخر الذى أثار ولا يزال لغطا كبيرا فهو القول بأن الولايات المتحدة قد قررت ايقاف معونتها كرد فعل على عزل د. محمد مرسى من منصب الرئاسة يوم 3 يوليو الماضى. والواقع انه إذا كان ذلك الأمر صحيحا فلماذا انتظرت الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة أشهر حتى تعلن تعليق هذه المساعدات، أى فى يوم 9 أكتوبر الماضى. أيضا إذا كانت الولايات المتحدة قد قررت انزال العقاب بالحكومة الجديدة بعد عزل د.مرسى لكانت قد استجابت للضغوط التى وقعت عليها من أجل اعتبار ما حدث يوم 3 يوليو هو بمثابة انقلاب عسكرى، عندئذ سيتم قطع المعونة تلقائيا بحكم التشريع الأمريكى!
رأيت من المفيد فى ضوء ما تقدم ان أستعرض حالة العلاقات بين الإدارة الأمريكية وحكم د.مرسى، كى أتحقق من الادعاءات بأن هذه العلاقات كانت فى أحسن حالتها طوال الوقت. واقع الأمر أن أمريكا كانت تدعو د.مرسى طوال فترة رئاسته إلى تحقيق التوافق بين مختلف طوائف الشعب، وإقامة جسور التفاهم معها، باعتبار أن ذلك انما يمثل الركيزة الأساسية لبناء ديمقراطية حقة. لاحظت أيضا ان الرئيس أوباما لم يحرص على لقاء د. مرسى عندما تواجد فى نيويورك فى سبتمبر 2012 لإلقاء كلمة مصر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم انظر كيف وصف أوباما العلاقات مع مصر فى حديث تليفزيونى أدلى به فى منتصف شهر سبتمبر 2012. قال أوباما حينئذ بالحرف الواحد، انه « لا يعتبر المصريين بمثابة حلفاء، لكنه لا ينظر إليهم فى الوقت نفسه كأعداء!» للمرة الأولى منذ عقود تدخل كلمة «أعداء» فى قاموس العلاقات الأمريكية المصرية حتى وإن جاءت على سبيل النفي! أضف إلى هذا أن الرئيس الأمريكى فى أول يوليو الماضى قال عبارته الشهيرة بأن «الديمقراطية لا تنحصر فقط فى إجراء انتخابات، إنما كيفية أن يتعامل الحكم مع قوى المعارضة»، وفى الخطاب الذى ألقاه أوباما فى الأمم المتحدة فى سبتمبر الماضى ذكر أن د.مرسى لم يكن على استعداد، أو لديه القدرة، على الحكم بطريقة تحتوى كل التوجهات داخل المجتمع المصرى.
المرة الوحيدة التى لاحظت أن أوباما قد كال فيها المديح للدكتور مرسى فكانت بعد نجاح الأخير فى تحقيق وقف اطلاق النار بعد الاعتداء الإسرائيلى على غزة فى 14 نوفمبر 2012. وغنى عن البيان ان وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل مقابل وقف العدوان الاسرائيلى هو الأمر الذى أثلج صدور الأمريكان بالطبع.
بقى أن نجيب عن التساؤل الخاص بتأخر الولايات المتحدة كل ذلك الوقت بعد أحداث يوليو، لتعلن تعليق المعونة. الواقع ان أوباما نفسه قد تكفل بالرد على هذا التساؤل فى الخطاب الذى ألقاه فى 15 أغسطس الماضى، (أى بعد يوم واحد من فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة). بالرغم من ان أوباما كرر انتقاداته لأسلوب إدارة د.مرسى لدفة الحكم فى مصر، وانحيازه الواضح لفصيل معين على حساب اطياف المجتمع الأخرى، إلا أنه شن حملة شعواء على ممارسات الحكم الجديد تجاه المدنيين، ولجوئه إلى العنف ضدهم مما أدى إلى مقتل المئات منهم، وجرح الآلاف غيرهم، وفقا لما قال الرئيس الأمريكى. حمل أوباما أيضا على إلقاء القبض على الأشخاص بطريقة تحكمية، كما دافع عن حق التظاهر السلمى، وانتقد إعلان حالة الطوارئ. وخلص أوباما إلى القول بأنه لا يمكن فى ضوء كل ذلك أن تستمر العلاقات بين أمريكا ومصر على سابق عهدها، وكأن شيئا لم يكن. إذن فتعليق المعونة جاء مرتبطا بنظرة أمريكا إلى الممارسات ضد المدنيين، وليس ذرفا للدمع على حكم د.مرسى، كما يحلو للبعض ترديد ذلك.
فى ضوء التقييم الذى قام به طاقم الأمن القومى الأمريكى، بناء على تعليمات من أوباما، أعلنت الخارجية الأمريكية فى بيان صادر فى 9 أكتوبر الماضى، ان الولايات المتحدة ستحجم عن تسليم مصر عددا من الأنظمة العسكرية الرئيسية (طائرات F-16، وطائرات الأباتشى، والدبابات)، وكذلك معونات نقدية تبلغ 260 مليون دولار، وذلك إلى أن يتحقق تقدم فى عملية قيام حكومة مدنية بناء على انتخابات حرة. وأوضحت المتحدثة باسم الخارجية لاحقا أن أمريكا ستستمر فى إمداد مصر بقطع الغيار، وتوفير التدريب للعسكريين، وكذلك تقديم المعونات فى مجال الصحة، والتعليم، وتحفيز القطاع الخاص، وكذلك تقديم المساعدات من أجل تأمين الحدود المصرية، ومكافحة الإرهاب، وضمان الأمن فى سيناء.
من المفارقات اللافتة للنظر، ان قرار الحكومة الأمريكية تعليق المعونة قوبل بانتقادات شديدة من قبل الدوائر اليهودية فى الولايات، بل ومن داخل إسرائيل ذاتها، وحذرت هذه الأصوات من أن القرار قد يطيح بالتعاون العسكرى بين أمريكا ومصر، كما أن الضغوط الشعبية فى مصر التى ساءها بالطبع التصرف الأمريكى قد تدفع الحكومة المصرية إلى إعادة النظر فى معاهدة السلام مع إسرائيل.
سيكون على مصر الآن اتخاذ خطوات ملموسة من أجل ضمان تنويع مصادر سلاحها، حتى وإن اعادت أمريكا النظر فى القرار فى وقت لاحق. ومما لا شك فيه أن دولا كثيرة صديقة، ستكون على استعداد لتلبية احتياجات مصر من السلاح، مثل روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وفرنسا وغيرها.
المهم هو كسر احتكار الولايات المتحدة لتوريد السلاح لمصر، أو امدادنا بالجزء الأكبر منه، وألا تكون مصر منذ الآن تحت رحمة طرف معين، قد يقدم السلاح أو يحجبه، وفق اعتبارات يقدرها هو، إنما ليست بالضرورة أن تأتى متفقة مع المصلحة المصرية أو توفر الحماية لأمنها القومى.
ولرُب ضارة نافعة..