أحلام قصيرة القامة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام قصيرة القامة

نشر فى : السبت 3 سبتمبر 2011 - 9:11 ص | آخر تحديث : السبت 3 سبتمبر 2011 - 9:11 ص

 أمام محطة قطار سيدى جابر، علبة صغيرة لها جدران ثلاثة من الصفيح، جوانبها متآكلة بفعل الصدأ، ومكتوبا على أحدها بخط اليد وبلون أخضر ممسوح: «يوجد لدينا جميع كروت الشحن»، «موبينيل وفودافون». العلبة صغيرة جدا لا يمكن أن يقف داخلها سوى شخص واحد بالكاد، وتشبه لفرط ضيقها تابوتا. لون الجدران الصفيحية الرقيقة أصفر كالح، وهناك خيط رفيع معلق بين مسمارين يقطع الواجهة المفتوحة، تتمدد عليه بضعة كروت متربة. تتدلى من سقف العلبة ــ الصفيحى أيضا ــ خرقة قماشية خضراء، تلمس الخيط وتخفى وجه قاطنة المكان الوحيدة.

شابة سمراء ممتلئة الجسم، محشورة داخل الجدران الثلاثة، لا تملك إلا أن تجلس على اللوح الأفقى المثبت فى الداخل أو أن تقف فى مكانها دون حركة، فالمساحة لا تتسع لأى وجود آدمى مريح.

حين عبرت من أمامها كانت تنظر بعيدا، حييتها تحية الصباح فلم تلتفت لى. اقتربت من العلبة ورفعت صوتى أكثر لكنها لم تدر رأسها باتجاهى، استدرت أنا لأصبح أمامها تماما، وأخيرا أدركت أنها لم تكن تتجاهلنى أو تتجاهل المارة، فقد كان مكتوبا على واجهة علبتها: «مشروع رعاية متحدى الإعاقة»، الشابة لا تسمع ولا تتحدث، فقط تشير بيديها فى صمت وتحتفظ بابتسامة ثابتة، دون أن تتمكن من جذب أى شخص لبضاعتها.

أصبح من المعتاد فى تفاصيل الحياة اليومية، رؤية أناس يعانون شظف الحياة وقسوتها، مسن يبيت فى الشوارع دون مأوى، طفل مريض يتم استغلال بؤسه وضعفه فى التسول، امرأة عجوز تجلس مستندة إلى حائط وتضع بجانبها متاعا مهترئا لم تفز بغيره من الدنيا، قلت لنفسى إن وضع الشابة هو بالقطع أفضل من أوضاع آخرين انقطعت بهم سبل العيش تماما، أناس كثيرون ربما تكون ظروفهم أسوأ يعيشون على الأرصفة وفى المناطق العشوائية والمقابر ولا يجدون عملا. حاولت أن أتجاوزها بأفكارى المستسلمة فلم أفلح، خاصة بعد أن وصل رجل خمسينى جرب أن يحادثها مثلما فعلت ففشل، ثم فطن بعد أن اقترب منها إلى العبارة المكتوبة على العلبة، فأشاح بيده منصرفا وضاحكا وهو يقول: «كويس إن الحكومة افتكرتهم بحاجة».

مشهد الشابة التى يغمر وجهها العرق دون جدوى، وعبارة الرجل الموجزة (سواء كانت ساخرة أو جادة) بدت من تمام العبث والهزل، ربما تنكص الدولة عن توفير الحد الأدنى من الحقوق والمتطلبات الأساسية للناس، ربما تترك مئات الآلاف دون وظائف وأيضا دون سكن ودون مرافق صحية وخدمات أولية، ربما ترفع يدها عن كثير من المشكلات، لكنها أيضا حين تقرر التدخل ووضع الحلول، فإنها تُظهِرُ عجزا مؤسفا، تقع فى أزمات جديدة تحتاج بدورها إلى حلول. مشروعات تقوم خصيصا لمساعدة أصحاب الاحتياجات الخاصة، يُتَوَقَّعُ منها أن تراعى البعد الإنسانى والأخلاقى، وأن تلتزم به، وأن تكون ذات فائدة حقيقية لا شكلية، وأن تحظى بشىء من الاحترام لا أن تصبح مثارا للسخرية والاستهزاء ومدعاة للخجل.

وضع الخطط والمشاريع التى تتعلق بخدمات نوعية مثل تلك، أمر يستحق أن يحظى بقليل من الدراسة قبل التنفيذ، فالعمل حق لجميع المواطنين وظروف العمل الملائمة هى أيضا حق مكفول للكل ومنصوص عليه، وتحديدا فيما يتعلق بأصحاب الاحتياجات الخاصة، أما أن تضع الحكومة مواطنيها داخل «قلاية» أو «فرن» شديد الضيق فى لهيب الصيف، تحت عنوان توفير فرصة عمل، ثم تتصور أنها تؤدى دورها على الوجه الأمثل فأمر جد غريب، وأن تجد من يقبل فعلها الكريه ومن يحييها عليه فأمر أكثر غرابة، لا تضاهيه إلا لافتة «مشروعات شباب الخريجين» التى تعلو عربات الخضار ولعب الأطفال ذات الثلاث عجلات، والتى تفترض أن الشباب يدرس فى الجامعة ويستهلك الوقت والجهد والمال، ثم يلقى بأحلامه وتطلعاته جانبا ويركز طموحه فى هدف وحيد، هو الوقوف أسفل تلك اللافتة وبيع الفاكهة والخضار. يتقلص الحلم على أيدى الأجهزة والمؤسسات الرسمية ويتحول إلى عقاب.

لا المواطن يشعر بقيمته ولا الدولة كذلك، ربما تعتبر تدخلها واضطلاعها بمسئوليتها منة أو نفحة لا يمكن محاسبتها عليها ولا السؤال عن مقدارها وقيمتها، تؤدى واجباتها كأنما تقوم بفعل خير تتفضل به على الناس، ولأن أحلام الناس بسيطة، فإنهم سريعا ما يرضون، مهما كان المقدم لهم صغيرا وتافها، بل وربما مؤلما. أحيانا ما تصبح القناعة بالنذر اليسير خصلة عقيمة، عيبا لا فضلا، ويصبح الرضاء بما هو موجود مدخلا لمزيد من التراجع والانتقاص من الحقوق.

ظلت الشابة فى مكانها لشهور، تجابه تحديا متواصلا، تحاول الصمود داخل علبتها المعدنية التى تكثف السخونة بعد أن تمتص شمس النهار الحارقة، وتحرك يديها محاولة التفاهم مع العابرين. لا أعرف إن كانت سعيدة أم لا، راضية أم ساخطة، تحلم حلما يتجاوز المكان أم تكتفى بوقفتها وابتسامتها وقطرات العرق التى لم تبرح أيها المكان. كلما رأيتها كنت أفكر أنها لو تنازلت عن «المشروع» وجلست على الرصيف فى ظل شجرة لكان الوضع أقل قسوة عليها، ولجمعت من المارة دون أن تنطق أضعاف ما تحصل عليه من وقفتها التعيسة، فلا أحد لديه من الوقت والصبر ما يدفعه للتوقف أمام علبتها، صور كثيرة باتت عادية نمر بها دون أن تحرضنا على الاستنكار أو الضيق أو حتى التعاطف، الكل صار مشحونا بهمومه الخاصة ومتاعبه، وفى غمرة الانشغال تسقط أشياء كثيرة، تضيع الفواصل بين الحقوق والهبات، ويكتفى الناس بأقل القليل، تصبح الأحلام قصيرة القامة وبعيدة عن التحقق.

فى زيارتى الأخيرة للإسكندرية كانت العلبة الصفيحية فى مكانها المعتاد، لكن الشابة لم تكن فيها.. تحت أشعة الشمس الخفيفة انتصبت العلبة وحدها، ساخنة وخاوية.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات