يستعيد أنفاسه لنستعيد أنفاسنا - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 6:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يستعيد أنفاسه لنستعيد أنفاسنا

نشر فى : الخميس 3 ديسمبر 2020 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 3 ديسمبر 2020 - 9:30 م

فى صبيحة يوم أربعاء مشمس قابلت مجموعة أولى من طلبتى أمام مدخل أحد المساجد المواجهة للنيل فى منطقة الزهراء، أخبرتهم أنه وطبقا لبعض الخرائط التاريخية الموثقة فإن شارع أثر النبى الذى سنمشى فيه حتى نقترب من خط المترو كان أحد حدود النيل أو شواطئها قبل ما يقدر بحوالى ألف عام. أوضحت لهم لاحقا باستخدام خرائط أخرى أنه أحد أربع خطوط لشاطئ النيل عبر حوالى ألفى عام يمكن التعرف عليهم طبقا لنفس المصدر. كانت هذه فكرة تبعث السعادة والبهجة فى نفسى أن أكون قادرا على التواصل مكانيا على الأقل مع زمن سابق (وتمنيت طبعا أن تبعث نفس الإحساس لدى طلابي). شرحت لهم بصورة مبسطة أن قوة الفيضان فى أى عام هى التى تحدد كمية المياه الموجودة فى النهر والتى تفيض على جانبيه جالبة معها العوالق التى تشمل الأتربة والمغذيات، والتى حولت أرض الوادى لتلك الأرض السوداء شديدة الخصوبة وعملت على تجديدها كل عام.
حدثتهم عما تسببه التيارات المائية للنهر من مراكمة للأتربة والعوالق فى أحد جوانب النهر، ربما أكثر قليلا من الجانب الآخر، وذلك فى إطار عملية الترسيب والتى يدرسها المهندسون والعلماء المختصون بشئون الأنهار. وبالتوازى مع تلك العملية قد تتسبب أيضا تيارات المياه فى النهر بتآكل أحد الجوانب أكثر من الآخر وهو ما يحدث فى موضع دون آخر فى إطار عملية طبيعية تسمى النحر. وبتوالى النحر والترسيب عبر السنوات والعقود يستمر النهر فى التعرج ويتحرك كأى كائن حى. ويؤدى تراكم تلك التحركات إلى تغيرات كبيرة فى حدود شواطئ النهر وجزره.
كان النيل يتحرك فعليا وليس مجازيا ويتنقل، كما يشهد التاريخ بذلك، ولعل أكبر مثال على ذلك أن شاطئ النيل الغربى اليوم يبعد عن بقايا مدينة منف بالقرب من ميت رهينة اليوم أكثر من ثلاثة كيلومترات. ولكننا لا نعرف للنيل اليوم إلا شاطئا واحدا فقط وحتى هذا الشاطئ الواحد معرفتنا به منقوصة إلى حد بعيد. فبعد بدء بناء القناطر المتعددة على النيل ثم السدود تم التحكم فى النيل بشكل كبير، انخفضت إلى حد كبير للغاية العوالق التى يحملها ماء النهر وتدفعها تياراته والتى كانت تأتى فى أكبر صورها فى وقت الفيضان الذى غاب بعد النصف الأول من ستينيات القرن العشرين. وأدى التحكم الكبير فى كمية المياه المتدفق عبر النهر إلى تحجيم مسببات التعرج الطبيعى المستمر والذى يميز الأنهار ويظهر حيويتها. ولذلك كنت سعيدا عندما رأيت لافتة لوزارة الرى بالقرب من معدية البدرشين عن مشروع لمقاومة نحر شاطئ النيل. لم أكن سعيدا للمشروع ذاته والذى ربما يستهدف عمل جوانب حجرية لتثبت الشاطئ ولكننى كنت فرحا بما تعنيه اللافتة. فبالرغم من كل تلك الهياكل الضخمة التى بنيت عبر النهر والتى استهدفت السيطرة التامة عليه والتحكم فيه تحكما كاملا فإنه لا يزال يقاوم ويستمر فى التحرك وربما يريد أن يستعيد بعضا من حيوته وقدرته.
كان النيل الكائن العبقرى المكون الرئيسى للمشهد الرائع لهذا المكان عبر العصور، ولكنه ربما كان يحظى باحترام وربما تقديس أكبر فى تاريخنا بينما الآن لا يحظى سوى بما لا يسر فى الغالب. نحن الآن لا نستطيع رؤيته بصورة طبيعية تسمح بإدراك أبعاده أو الوقوف بحرية والتأمل فى مائه وجزره وشواطئه. لم يتبق سوى أماكن قليلة يمكن أن يتجمع فيها الناس حول النيل، ناهيك عن رؤيته فرادى بسبب الأسوار المتنوعة بامتداد النيل وخاصة تلك المبنية حول النوادى المتعددة أو المنشآت الأخرى والتى يستخدم فيها من الخرسانة والطوب وأنواع الحجارة المختلفة ما يحمل فى طياته استمرار ذلك الحرمان مع التواصل مع المكون الأساسى للطبيعة فى مصر والتى نحتاجها جميعا لسلامة صحتنا العامة.
نحتاج أن ندعم إعادة الحيوية والحياة للنيل، وأول خطوة ستكون بترك مساحة له لكى يتنفس وربما يتحرك ولو قليلا. وتشكل تلك المساحة المتروكة لحركة النيل بمثابة استعادة شواطئه الطبيعية من غرس النباتات التى لا تساعد فقط على تماسك تلك الشواطئ ولكنها تساهم فى المحافظة على جودة مياه النيل وتوفر موئلا طبيعيا لحياة الكائنات التى تعيش فى مياه النيل العذبة والتى هى جزء هام من دورة حياة الكائنات فى مدينتنا. ولكى يكون ذلك ممكنا نحتاج لمنع أى بناء دائم على النيل، ليس فقط فى المستقبل ولكننا نحتاج أن نبدأ فى إخلاء المبانى الدائمة لأى غرض ونستعيدها كجزء من شاطئ النيل الطبيعى الذى يجب أن يكون متاحا للجميع وربما أيضا لبعض الأرصفة الخشبية العائمة المرتبطة بالشاطئ والتى تسمح ببعض الأنشطة التى لا تمنع تواصلنا مع النيل ولا تمنع النيل من أن يتنفس. ساعدنا هذا النهر العظيم الحى عبر آلاف السنين ومكننا من أن نعيش على ضفافه حياة كريمة، فهل نقوم بما يجب علينا ونساعده فى استعادة بعضا من حيويته وحياته لعله ينشر فينا بعضا من تلك الحياة فى صورة هواء وماء أنقى وصحة أفضل، ولعل استعادة جزء من المشهد الطبيعى للنيل تسهم فى استعادة التقدير المستحق فى نفوس الجميع للماء الذى يجرى فيه.

التعليقات