أحمد خالد توفيق.. أسطورة «العرّاب» الأخير - عمرو عز الدين - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 2:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحمد خالد توفيق.. أسطورة «العرّاب» الأخير

نشر فى : الأربعاء 4 أبريل 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 أبريل 2018 - 9:10 م

حين غربت شمس يوم الإثنين 2 أبريل 2018، ولطخت دماؤها ثوب المساء الأبيض البكر، حينذاك رحل الدكتور أحمد خالد توفيق، العرّاب الأخير.

******

في مقدمة روايته الكابوسية المقبضة «يوتوبيا» نقل أحمد خالد توفيق، أستاذي وأبي الروحي الحبيب الراحل، أبياتا شعرية للشاعر الألماني بيرتولت بريخت، جاء فيها:

«حقا إنني أعيش في زمن أسود
الكلمة الطيبة لا تجدُ من يسمعها
والجبهة الصافية تفضح الخيانة
والذي ما زال يضحك
لم يسمعْ بعدُ بالنبأ الرهيب»

وكان هذا هو حالي في الليلة الحزينة. عائد لمنزلي على غير هدى، أنظر في الوجوه الضاحكة من حولي، اللامبالية لأمري، المتجاهلة لألمي، وأردد: «والذي ما زال يضحك.. لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب!».

******

تعودنا أن الأساطير هي قصص خيالية لا يمكنها التحقق في الواقع. لم نر خيولا تطير أو نهيم على وجوهنا تلبية لنداء النداهة أو نسبح مع عرائس البحر في واقعنا الفقير. إلا أن بيننا كان يعيش رجل يُمثل أسطورة حقيقية، وكالعادة لم ندرك قدره الكامل إلا بعد رحيله. صرنا نجري في أروقة صفحات ومواقع الإنترنت كالمخابيل، وكأنه لم يكن بيننا طوال ما سبق من أوقات.

كثيرون من أحبائه الذين انقطعت بينهم اللقاءات والاتصالات، عادت هواتفهم ترن رنينا متوجسا، يسألون عن حقيقة رحيله بصوت متهدج يخشى كلمة «نعم»، مرات ومرات ومرات دون إجابة شافية، لا أحد يريد أن يصدق، حتى وإن جاء تأكيد النبأ على لسان أقرب أصدقائه.

رفاقي في صالة تحرير بوابة الشروق يطلبون مني السماح بنشر الخبر، فأرفض بشدة، أقسم ألا أنشر الخبر إلا بتأكيد من مصدر رسمي وليس نقلا عن بضع كلمات عجاف تتناقلها الحسابات على «فيسبوك»، حتى وإن كانت من صديق عمره.

أتصل به مباشرة فتخبرني الرسالة المسجلة أنه غير متاح حاليا، فأود سؤالها: الهاتف أم صاحبه؟ هل هو غير متاح مؤقتا أم دائما؟ ثم عرفت بعدها أنه للأبد.

******

جمعتنا بكلماتك قديما، وحين تفرقت بنا السبل، جمعتنا برحيلك، فنحن بك نسعد ولك قلوبنا تطرب، دائما وأبدا.

******

في الصباح التالي، وبعد ليلة قضيتها وحيدا في مقبرة أفكاري تحاصرني فيها ذكرياتي معه، كنت أتوجه إلى جنازته. تقفز إلى ذاكرتي المشاهد تلو الأخرى، منذ رده الأول على خطاب أرسلته بعد عشرات الخطابات التي كتبتها ولم أجرؤ على إرسالها، وكيف كان الرد بسيطا وأنيقا وحانيا ومشيدا ومشجعا وملهما.

عقدة ذنب عنيفة ظلت تجول في رأسي، فكلما ظهرت ذكرى بيننا أوسعتني عقدة الذنب توبيخا، لماذا لم تنفذ له طلبه ذاك؟ لماذا لم تزره؟ لماذا تَخلّفتُ عن حضور ندوته الفلانية أو لقاءه الفلاني.. الآن فقط تذهب إليه؟ الآن فقط تهرع لرؤية جثمانه بدلا من النظر في وجهه وتبادل الحديث معه؟ أحاول طرد تلك الخواطر وأعود لذكرياتي معه، مع كل ما كتبه من قصص وروايات ومقالات فنية، أتذكر سلسلة مقالاته عن الأغاني العالمية القديمة والتي كان ينشرها تحت عنوان «نشوات قديمة»، فيترجم الأغنية ويتحدث عن كواليسها ليدفعني دفعا إلى سماعها أيا كانت ذائقتي الموسيقية، وسرعان ما تطل عقدة الذنب بلسانها السليط تذكرني: ألم يطلب منك مرارا أن تساعده في تسجيل بعض الأغنيات العالمية التي كتب على موسيقاها كلمات بالعربية؟ ألم يفصح لك عن خوفه من الموت تاركا خلفه كل هذا الكم من الأغنيات فتضيع؟ أشعر وقتها برغبة عارمة في البكاء دون جدوى، أطلب من العراب في سري أن يسامحني راجيا من الله أن يَبْلُغَه طلبي هذا وهو بين يديه الآن.

******

لن أشغل بالي بالرد على من يتذمر من حزننا عليه ومن مظاهرة الحب التي أغرقت السوشيال ميديا ليومين متواصلين حتى كتابة تلك السطور. قديما قال الدكتور أحمد في عدد من أعداد سلسلة ما وراء الطبيعة «أسطورة الكاهن الأخير»، على لسان أحد أبطاله: «لماذا تحرق النار؟ لأنها نار.. لماذا يطفئها الماء؟ لأنه ماء.. لماذا يشربه النمر؟ لأنه نمر.. وحين تفهم أن النار لا حيلة لها إلا أن تحرق! والماء لا حيلة له إلا أن يطفئ!.. عندئذ ستغفر للثعبان لدغاته وللقط خدوشه ولخصمك ضرباته»، هكذا تعلمت منه وهكذا فهمت أنه لن تتغير طبيعة هؤلاء، ولن أتمكن من تغييرها بدوري.

لن يتمكن أحد من تغيير طبائع الذين يسخرون من الحزن ولا يحترمونه، يستهزئون بالموت ولا يقدسونه، وإن كانت هناك فرصة لتطبيق تعاليم العرّاب فالآن وقتها.

******

في نفس العدد المذكور أعلاه، كانت قوانين «النافاراي» العقيدة الفلسفية الشبيهة برياضات الدفاع عن النفس الصينية، حسب أحداث القصة، تحتم على معتنقها أن ينذر خصمه قبل الهجوم عليه، لعل الخصم يتراجع أو يستسلم فلا يكون هناك من داع للقتال، عن طريق صيحات ثلاث:

تشا سارايانا (سأبدأ بالسارايانا)
جوانغ سارايانا (احترس من السارايانا)
كيو سارايانا (إليك بالسارايانا)

إلا أن الدكتور أحمد خالد توفيق لم يفعل، لم يُبلغنا أنه سيبدأ بالسارايانا، ولم يُحذرنا أن نحترس منها، بل انتقل للمرحلة الأخيرة مباشرة.

هكذا دخل القلب بلا استئذان وهكذا رحل بلا إنذار.

سامحك الله وغفر لك ورحمك وجعل لك نصيبا من كل نبتة حسنة أنبتها في وجداننا وخيالنا إلى الأبد، وحتى تحترق النجوم، وحتى نلتقي يوم لا ظل إلا ظله، فإلى ذلك اللقاء.

عمرو عز الدين كاتب وصحفي مصري
التعليقات