تطابق وجهات النظر فى البعد الإنسانى لدى المُغَرِّبين والسَلفيين! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تطابق وجهات النظر فى البعد الإنسانى لدى المُغَرِّبين والسَلفيين!

نشر فى : الخميس 4 مايو 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الخميس 4 مايو 2023 - 7:25 م
فى إحدى التجمعات السكنية الشهيرة، يشتكى أغلب الملاك فى هذه الكومباوندات ــ من أبناء جيلنا الذين ولدوا فى الخمسينيات وما قبلها من القرن الماضى ــ من التباعد الاجتماعى بين الأسر المتواجدة فى هذه الأماكن، فقد رُسمت الفلل والعمارات ــ عن قصد ــ بطريقة هندسية بحيث تكون المبانى متباعدة بعضها عن بعض، وبحيث لا يُمكن لأى ساكن أن يرى جاره فى أقرب الوحدات القريبة منه حتى ولو كانت فى نفس العمارة أو العمارات والفلل المجاورة، وهذا بحجة المحافظة على خصوصية كل شخص، علمًا بأن كل ما يمكن كشفه فى البيوت القديمة فى مصر وفى الأقاليم حتى يومنا هذا هو كشف من هم فى البلكونات، فالبلكونة مساحة مخصصة لأن تكون مكشوفة فيجلس فيها سكان الشقة، خاصة كبار السن لتعوضهم عن عدم إمكانية خروجهم للتنزه، وهى مساحة فى نفس الوقت للترويح عن النفس، واستنشاق الهواء النقى خاصة فى فترة الصيف حيث الحرارة تملأ الشقق من الداخل.
من أجل تحقيق الخصوصية المبالغ فيها فى هذه التجمعات تغيرت بالكامل فلسفة البناء بالذات فى العاصمة، القاهرة، وربما فى الإسكندرية وهو ما يسمى بالـ urbanism، وتغيرت معها أمزجة وسلوكيات مواطنات ومواطنى المحافظات الكبيرة، وباتت تميل للوحدة وللابتعاد الجسدى، وبالتالى النفسى، لدرجة أننا وصلنا إلى أن كثيرا من سكان العمارة الواحدة فى هذه الكومباوندات لا يعرفون بعضهم البعض، واختفى بذلك مفهوم «الجيران» والاهتمام بهم والحرص على مراعاة شعورهم واللجوء إليهم فى حالة الضرورة التى يمكن أن تنقذ الكثيرين فى كثير من الأزمات الصحية أو غيرها!
فى الحقيقة، هذا التباعد لم يبدأ فجأة مع ظاهرة التجمعات الجديدة، ولكنه بدأ عندما رفض الأبناء الزواج فى بيت العائلة الكبير، وبدأ يبحث كل عروسين عن بيت مستقل بعيدًا عن أهل الزوج، بدأت هذه الظاهرة فى المدن ثم انتقلت العدوى للأقاليم وفى القرى، وأصبحت كل زوجة شرطها الأساسى أن تعيش فى بيت مستقل لها بعيدًا عن أهل زوجها حتى ولو كان والدا الزوج فى حالة صحية تقتضى مراعاتهم من أحد الأبناء، وفى هذا بالطبع قصر نظر لأن الأيام دول، وما يعانى منه الآباء اليوم سوف يقع فيه حتمًا الأبناء مستقبلًا، كان لظاهرة التباعد الاجتماعى هذه ــ فى العصر الحالى ــ تأثيرات سلبية كثيرة فى الحياة العامة للشعب المصرى، فهى ليست من طبيعته الشرقية، ولا من سمات مجتمعاتنا المتدينة بطبعها التى تفرض على الجميع صلة الرحم واحترام الجار ومراعاته، فمن الثابت أن النبى ﷺ ظل يوصى بالجار حتى ظن الناس أنه سيورثه!.
●●●
كانت هذه المقدمة بسبب أن إحدى السيدات من ملاك الوحدات السكنية الكائنة فى أحد التجمعات الحديثة والشهيرة، كتبت تشتكى على جروب الكومباوند الذى تقطن فيه، حيث عبَّرت عن صدمتها من تصرف إحدى جاراتها، فروت أنها فى أول أيام عيد الفطر أعدت طبقًا من الكعك والبسكويت وذهبت به لإهدائه لجارتها فى الشقة المقابلة لها بنفس الدور، ولكنها فوجئت بأن جارتها ترفض قبول الهدية، وتقول لها إنها لا تريد أن تقيم أى علاقة مع الجيران!.
بينما، ما زال حتى يومنا هذا، تتمتع العلاقات الاجتماعية بين الأسر المتجاورة ــ فى الأحياء الشعبية والمتوسطة وفى الأقاليم ــ بحميمية وبدفء كبير، فيصبحون فى الصباح يتبادلون التحيات والتهانى فى المناسبات الطيبة، وكذلك يتبادلون السؤال بعضهم عن بعض فى الحالات الحرجة مثل المرض أو بعض المصاعب، هذا التبادل يعم النفوس بالطمأنينة بين الجيران، ولا يفوتنا فى هذا الصدد الإشارة إلى العلاقات التى كانت تُبنى بين أبنائهم المراهقين من الذكور والإناث، فكانت هذه العلاقات مُراقبة بدقة من الأبوين، والتى كثير منها تتطور لاحقًا إلى علاقة زواج.
حققت هذه الزيجات فى أغلب أحوال ــ إن لم يكن كلها ــ نجاحًا باهرًا، لأن الأسر كانت تعرف بعضها، ولأن سمعة شباب وفتيات الحَى كانت معروفة لدى الجميع، وهذا عكس ما يحدث الآن حيث يتعارف الشباب والشابات دون أن تتعرف الأسر على جوانب خفية مهمة فى الأسرتين، ولهذا فالزيجات الحديثة تُعانى من فشل سريع لأنهم اعتمدوا على مظاهر خادعة مثل مكان السكن أو وظيفة الأب والأم، فيفاجأ العروسان بطبائع وسلوكيات تختلف اختلافًا جوهريًا بين الطرفين، وعليه فكثير من هذه الزيجات تفشل ربما بعد شهور قليلة لأنها اعتمدت على المظاهر الخادعة وليس عن معرفة وثيقة بين الطرفين أو بين النسايب، خاصة بعد الانقلابات التى حدثت فى المجتمع جراء الانفتاح والخصخصة اللذين عادا على المجتمع بمساوئ جمة لأنه لم يُمهد لذلك بشكل علمى وخضع للعشوائية!
●●●
إذن ما يحدث الآن فى مجتمعاتنا الشرقية والمتدينة هو تباعد اجتماعى، هذا التباعد بدأ بمظاهر عديدة ومتنوعة:
أولها شوهد مع موجة أسلمة المجتمع التى بدأت فى سبعينيات القرن الماضى، عندما بدأت دعوات فصل الإناث عن الذكور فى مدرجات الجامعة فضلا عن دعوات ارتداء البنات والسيدات لـ«النقاب» الذى لم يثبت أبدًا ضرورة ارتدائه عند أغلب الفقهاء، ولم يَشِذ عن ذلك إلا الفقهاء أو المفكرون الإسلاميون المتشددون الذين لم يتزوجوا، مثل ابن تيمية وسيد قطب..، فكانت المرأة لديهم هاجسًا لابد من إخفائها وإبعادها عن أنظار الرجال، بل وإقصائها من المجتمع!.
ولكن اختلف جُل الفقهاء والأئمة فى ارتداء الحجاب فقط، ودليلنا على ذلك أن كل مشايخ الأزهر قبل السبعينيات لم ترتدِ لا زوجاتهم ولا بناتهم الحجاب، وكان المجتمع المحافظ فى الريف تضع نساؤه وبناته على رءوسهن «التعصيبة» فقط، كما أن الرجال كانوا يضعون «طاقية» على رأسهم، وربما هذا ليقيهم من حرارة الشمس وهم يعملون فى حقولهم، أما فى المدينة فلم يعرف أهلها هذه الأشياء بما فيهم علماء الأزهر، هكذا تم عزل المرأة عن محيطها فى المجتمع!.
وثانيها عندما تغيرت، بعد الانفتاح الاقتصادى، فلسفة التخطيط والتطوير العمرانى للبلاد، وكما تغيرت فلسفة التنمية إلى «الخصخصة» تغيرت معها أمزجة الناس، وبدأوا يبحثون عن «الخصخصة» أو الخصوصية فى كل شىء فى حياتهم، فنشأت «الكومباوندات» بأسوارها العالية التى تعزل ساكنيها عن بقية أفراد المجتمع، بل وعَمِلت بعض الشخصيات الكبيرة إلى أن يكون لهم مدخل خاص فى الكومباوند الذى يعيشون فيه، هكذا من تباعد إلى تباعد أكثر، وهذا مخالف لطبيعة البشر!
وفى هذا نقرأ لابن خلدون ــ أكبر علماء الاجتماع ــ فى كتابه «مقدمة ابن خلدون» فى الباب الأول منه: «أن الإنسان اجتماعى بطبعه وإن لم يحب ذلك، فالحياة عبارة عن علاقات تترتب بعضها على بعض، سواءً بين البشر أو بين الحيوانات، ومن المستحيل أن يستطيع الإنسان أن يعيش بمفرده تمامًا؛ لأن حياته تحتم عليه التعامل مع الغير، وإن بطريقة غير مباشرة، فإن حاول أن يكتفى بنفسه لن يفلح، وكذلك يحتاج الإنسان إلى مَن هم حوله لتحقيق الأمان، وذلك لأنه لا يملك القوة الكافية التى يستطيع بها الدفاع عن نفسه وحقوقه بمفرده على عكس الكثير من الدواب».
وثالثها ــ وهو تتابع للأولى والثانية ــ عندما تطورت ظاهرة التباعد لتفرض نفسها فى مجالات أخرى، أهمها التعليم، فانتشرت المدارس الخاصة للغات التى لا تهتم بحضارتنا الشرقية، ولكنها تُدعم حركة التغريب، ومن بعدها الجامعات الخاصة، هكذا تباعدت الناس عن بعضها البعض، بعد أن كان أبناء الحيّ الواحد يدخلون مدرسة واحدة، وأبناء المحافظة الواحدة يدخلون جامعة واحدة، فتنصهر كل الفوارق بين الشباب والشابات، ويصبح هناك تآلف طبيعى بين كل طبقات المجتمع، وهذا ما يحدث فى كل الدول المتقدمة التى تحافظ على حضارتها، وتعمل بكل قدرتها على ترسيخ قيمها وعاداتها، ولكن الآن نرى فى مصر محاولات لتمزيق المجتمع بغرز أساليب التباعد بين المواطنين والمواطنات، فنجد طالبة أو طالبًا من الإسكندرية أو من الصعيد يترك محافظته ولا يتقدم للدراسة فى جامعة الإسكندرية أو أسيوط ويلتحق بجامعة خاصة فى القاهرة لمجرد أن لها صيتا اجتماعيا متميزا، ومن هنا بدأت ظاهرة التنمر فى المجتمع، كما شاهدنا فى فيلم «صعيدى فى الجامعة الأمريكية» (1998) بطولة محمد هنيدى ومنى زكى!.
بهذا نجد أن الداعين للتغريب فى مجتمعاتنا الشرقية يتفقون مع السلفيين القادمين بفكرهم من دول الخليج لدفع المجتمع نحو التباعد الجسدى والنفسى، فيعيش الناس جميعًا غرباء فى بلدهم، ومتباعدين بعضهم عن بعض، والغريب أن منابع الفكر السلفى فى مجتمعات الخليج بدأت منذ فترة ليست بالقليلة تنفض يدها من هذا الفكر لتعيش حياة سوية يتآلف فيها كل أفراد مجتمعاتهم، فتعم السعادة والمحبة والود ويعيش الناس بالطبيعة التى خلق الله الإنسان عليها كما أوضح لنا سابقًا ابن خلدون!.
أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات