فى واحدة من مقالاته حذر الراحل إدوارد سعيد مما أسماه القراءة الاستعمالية للنصوص، ولفت إلى أن هناك من يسيئون للأدب باستعمال النصوص ونزعها من السياق لتؤدى دورًا إيديولوجيًا لم تكتب من أجله.
وعلى ضوء هذا التحذير تابعت الجدل الذى أثير حول رواية (صلاة القلق) للروائى المبدع محمد سمير ندا بعد فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية.
ومن نافل القول التأكيد على أن الجوائز لا تمنح أى عمل أدبى أو فنى قيمة ليست فيه، كما أن الجوائز ستبقى دائما موضع خلاف لأن هناك دائما فائزا فى مواجهة مع خاسرين. ومفهوم أيضا أن لكل طرف أنصارا ومشجعين ولكن حكم الزمن هو معيار الحكم على جدارة أى عمل.
وفى الأدب هناك مئات الأعمال التى لم تنل جوائز واستمعت بها أنا وغيرى، بينما سقطت من الذاكرة أعمال أكثر كانت موضع حفاوة واهتمام ونالت حظها من الجوائز والانتشار والذيوع لكنها لم تكتسب أية مكانة على الإطلاق.
لا أعود شخصيا كلما أتيحت الفرصة لرواية جزائرية جميلة كتبها مالك حداد وترجمت من الفرنسية للعربية بعنوان (ليس على رصيف الأزهار من يجيب) وأشعر دائمًا أنها أقرب لى من روايات كثيرة، كما لم أسأل نفسى أبدًا عما نالته من الجوائز؛ فيكفى أنها أمامى منذ سنوات أعود لها كلما أردت متعة خالصة وبعد قراءات متعددة ما زلت أجد فيها آفاقا للتأويل ومساحات لفهم أرحب.
قرأت (صلاة القلق) قبل فوزها بفترة وجيزة، إلا أن ما أثير حولها دفعنى لقراءة جديدة زادت من استمتاعى بها والتفت خلالها إلى أمور لم أنتبه لها فى القراءة الأولى.
أكثر ما أثار انتباهى أن بعض من هاجموا الرواية رفضوها بزعم مراجعتها لأسباب هزيمة 67 أو نتيجة انتقادها لنظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر وأدائه خلال السنوات التى سبقت الهزيمة وهو أمر عجيب وغريب لأن كُتاب جيل الستينيات الأكثر قربا وإيمانا بتجربة عبد الناصر هم أول من انتقدوا تجربته فى الحكم، بل عارضوه ودفعوا ثمن هذه المعارضة بالسجن والتشريد.
شخصيا أرى أن المراجعة التى قدمها بهاء طاهر للتجربة الناصرية عموما فى رائعته (قالت ضحى) ستبقى واحدة من أهم المراجعات التى كشفت فداحة الهزيمة وتسربها إلى نفوس الناس، كما أشارت إلى أسبابها بحساسية جمالية بالغة وهى ذاتها الأسباب التى لفت إليها الراحل جمال الغيطانى فى أعمال كثيرة أشهرها (الزينى بركات) و(ذكر ما جرى فى المقشرة) بل إن عمله الكبير (التجليات) انطوى على الحيرة التى أصابت هذا الجيل فى تعامله مع الزعيم الراحل.
وبالمثل تعطى رواية (اللجنة) للأستاذ الكبير صنع الله إبراهيم صورة صادقة عن المخاوف والكوابيس التى أحاطت جيله الذى عارض ناصر بقوة ولم يعتبر هذه المعارضة انتقاصا من قدر الزعيم أو خصما من وطنيته بل هى ضرورة واجبة لتصحيح مسار الثورة وتحقيق أهدافها.
يستطيع القراء العودة كذلك لرواية (فى الصيف السابع والستين) للروائى إبراهيم عبدالمجيد لإدراك المناخ الذى يبرر أسبابا تمثل جمال عبدالناصر روائيا وفنيا وهو أمر سيظل هاجسا فنيا يستجيب دائما للشروط التى تقتضيها عملية التخييل الإبداعى المفارق بطبيعته للواقع.
يعلم الجميع الفارق الكبير بين الرأى الذى يتبناه المؤلف ويعلنه فى مقال رأى أو فى مقابلة صحفية والرأى الآخر الذى تهجس به الشخصية الروائية التى أبدعها، ومن ثم لا يجوز اتهام أى روائى انطلاقا من موقف أو رأى تتخذه شخصية داخل نسيج إبداعى متخيل.
أحببت رواية (صلاة القلق) التى تعكس ولع مؤلفها بنماذج شائعة فى أدب الديستوبيا أبدعها فرانز كافكا أو جورج أورويل، والأهم أنها مكتوبة بلغة ذكية مفعمة بطاقة شعرية شجية تظهر ثقافة مؤلفها ودأبه فى تشكيل عالمه وتأهيل شخصيات الروائية لخوض اختبارات صعبة مع القارئ تزيح قشرة القداسة عن زعامات ووقائع بحاجة إلى مشرط وليس إلى سكين.
وعلى طريقة أدب أمريكا اللاتينية لكن بصيغة محلية تنهل من تراثنا الشعبى فى الحكى والأساطير تدين الرواية بوضوح تام كل صور الاستبداد وتكشف عمليات تغيب العقل.
وبفضل اعتمادها على تقنية تعدد الأصوات تتيح أمام القارئ فرصة لا نهائية لتأويل الأحداث وفهم الدوافع وتفضح ببساطة أشكال التواطؤ والتحالفات التى تهيئ لقبول الخرافة وتقود إلى الضجر، وترفض بسحر الفن أن يرتضى الناس العيش برءوس السلاحف.