سألتنى.. ما بك يا بيه؟ أجبت.. المزاج غير معتدل. عادت تسأل.. طيب، أعمل لك فنجان قهوة يعدله؟.. بودى لو رددت على الفور بأن القهوة هذه المرة هى السبب فى انحراف مزاجى فكيف تكون هى العلاج. أعلم بالتأكيد أنها لن تقدر الرد، فللتعامل مع القهوة مكانة تكاد ترقى عند أغلب من أعرف من أهل بلدى إلى مستوى «لزوم التقديس»، والمقدسات فى عرف هؤلاء لا يمكن أن تضر البشر.
• • •
لا أبالغ فى خلع صفة من صفات التقديس على فنجان القهوة. ما أذكره فى صباى عن دوائر شرب القهوة يكفى دليلا. أذكر أنه كان محرما علينا التواجد فى اجتماعات النساء فى الصالون العربى فى بيت جدتى حول صينية صفراء لامعة وقد رص عليها «سبرتاية» وعدد من الفناجين بعدد الحاضرات وعلبة البن التى ما أن تفتح إلا وتفوح فى أنحاء الغرفة رائحة حب الهال مختلطة برائحة البن وروائح أخرى ليس أقلها شأنا رائحة المستيكة وجوزة الطيب. تصورت خطأ لبعض الوقت أن القهوة مشروب نسائى لا يمسه الذكور.
• • •
مرت سنوات قبل أن أتعرف على «قهوة» أخرى. كنا فى سيدى بشر نقضى بعض أيام الصيف ومعنا شقيقتى الأكبر وزوجها. كانت هوايته المفضلة المشى أو الجرى مسافات طويلة. كنا فى معظم جولات مشينا ننتهى عند القهوة التجارية، قرب حى المنشية، وهناك نتناول إفطارا مصريا مع الشاي. ذات جولة توقفنا أمام حلوانى ومقهى «ديليس»، على الكورنيش قرب محطة الرمل، ليقول لى إنه يكافئنى على شجاعتى وصمودى، وطلب لى وله إفطارا أوروبيا ومعه براد قهوة فرنساوى. كانت أول مرة أشرب فيها قهوة من أى نوع وقد تجاوزت بشهور السادسة عشرة من العمر.
• • •
امتحنت فى مسابقة التعيين بوزارة الخارجية وجرى تعيينى بإدارة الصحافة. أذكر أننى وصلت إلى مقر الإدارة فى صباح باكر. لم يكن فى الإدارة غير الفراش الذى رحب بوصولى وقادنى إلى مكتب قال عنه إنه خصص لى باعتباره الأقل حجما واتساعا بين كل المكاتب الموجودة بالغرفة. غاب دقائق وعاد يحمل صينية فضية اللون تتسع لكوب ماء وفنجان صغير و«كنكة» نحاسية يفوح من فوهتها دخان. راح بدون استئذانى يفرغ القهوة فى الفنجان. راعنى أن القهوة لم يصدر عنها رائحة من أى نوع باستثناء رائحة البن المحمص. قهوة بدون طقوس. عرفت فيما بعد أن القهوة تأتى كل صباح فور وصولى وأحيانا فور جلوسى على مكتبي. لا تهم رائحتها أو سخونتها أو مفعولها. كانت فرضا أكثر منها طقسا. سافرت لأجد هذا الفرض معمولا به فى سفارتنا فى نيودلهى ثم فى روما وغيرها. كانت فى غالب الأحوال تعود مع الفراش باردة دون انتقاص إلا من «شفطة» أو شفطتين. المهم لم أدمن هذه القهوة.
• • •
كنت فى الهند قبل أن يجد الشاى منافسا له فى مسقط رأسه. كنت هناك عندما لم يكن الهنود يشربون القهوة. كانت للشاى طقوسه الإنجليزية، نوع لعله الأشهر من الطقوس غير القابلة للتحسين أو التغيير. اختلطت فى هذه الفترة بشباب من الجنسين من الطبقة الارستقراطية تمردوا على تقاليد وطقوس عديدة هؤلاء أقبلوا وأنا معهم بشغف مبالغ فيه على شرب القهوة الأمريكى (قهوة الفلتر) فى مقهى أجنبى الطابع والتأثيث واسمه جاى لورد. حتى ذلك الحين لم تفلح أنواع القهاوى التى تعرفت عليها وجربتها بشغف أو بغيره فى إجبارى على إدمان أى منها.
• • •
جرت عادة الزملاء بسفارتنا فى روما أن يلتقوا كل صباح فى مقهى مسمى باسم الميدان الواقع فيه. هناك شربت قهوتهم وأيضا بدون طقوس إلا أنها قهوة سريعة الإدمان. ندخل المحل ونذهب مباشرة لنقف أمام ماكينة ليست قليلة الحجم يدخل فيها الفنجان فارغا ويخرج منها وبداخلة "مسحة" قهوة ساخنة تفوح منها رائحة قوية ولكنها ليست الرائحة الممزوجة بالميستيكة وجوزة الطيب. إنها رائحة بن صافي. أكرر أنها مسحة ولكن مسحة بقوة حصان. ما إن تصل إلى اللسان إلا ويقع التفاعل مكثفا وفاعلا مع المخ والأعصاب وغيرها من ملكاتنا ومكوناتنا.
• • •
أظن أننى رأيت فى النمسا احتراما لشرب القهوة لم أشهده فى مكان آخر، ربما باستثناء احترام الأهل فى بيوت مصر، مصر المعز لدين الله والجمالية لـ"قعدة القهوة". أهل العاصمة فيينا لا يشربون القهوة بالكثرة التى يشربها بها أهل أمريكا، ولكنهم يشربونها باحترام وتقدير واستمتاع حقيقى. المقهى النمساوى وبدقة أكثر المقهى الفييناوى دليل مجسم لهذا التقدير. أعترف أن الوقت الذى يقضيه الإنسان فى مقهى من مقاهى فيينا الشهيرة وقت مستحق لن يقضيه فى مقهى آخر فى إيطاليا أو ألمانيا أو إنجلترا أو فى أمريكا أو فى عواصمنا العربية.
• • •
محظوظة، أو لعلها قادرة ومتمكنة، شركات زراعة البن وصناعة القهوة. أستلم كل صباح حوالى مائة رسالة تتمنى لى صباحا سعيدا أو يوما طيبا أو تدعو لى بالتوفيق وترجو التفاؤل وراحة البال، وكلها أو قل سبعين فى المائة منها رسمت فى صدر الرسالة فنجان قهوة وإلى جانبه إنسان سعيد أو ناجح أو متفائل يتطلع للقهوة بالإعجاب والمحبة والشغف والرغبة ومشاعر أخرى. خطر ببالى استحالة أن يوجد فى عالم الأعمال من ابتكر حملة إعلانية بالمجان لها هذا التأثير والتواصل اليومى مع مستهلكى ما ينتجون ويسوقون.
• • •
إن كنت حقا أدمنت فى السنوات الأخيرة إدمان القهوة فالمسئولية يجب أن تتحملها الشركة الصانعة لماكينة «نيسبريسو» والشركات المنتجة للبن وصانعة القهوة الجاهزة والمعبأة خصيصا من أجلى. يتحملها أيضا كل من أساء لمعنوياتى أو كشف عن ضعفى أو تسبب فى أن أقلق أو أغضب أو أفرح أو أفكر أو أتألم أو أن أشفى من ألم أو وجع، ويتحملها كل من حاول أن يتمنى لى يوما سعيدا وفى يده فنجان قهوة يتصاعد منه الدخان مختلطا بصوت محمد قنديل وهو يشدو برائعته «يا حلو صبح .. يا حلو طل».