حذار من تكرار تجربة الخديو إسماعيل والسادات - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حذار من تكرار تجربة الخديو إسماعيل والسادات

نشر فى : الثلاثاء 5 مايو 2015 - 9:15 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 5 مايو 2015 - 9:15 ص

كنت أستعيد فى ذهنى تطور مصر الاقتصادى خلال القرنين الماضيين، وأقارن بين فتراته المختلفة من حيث ما حققناه فى كل منها من تنمية أو مجرد النمو، فلفت نظرى أمران مهمان:

الأول: إننا طوال الخمسين عاما الماضية، أى منذ انتهاء سنوات الخطة الخمسية الاولى فى ١٩٦٥، لم نحقق أى نجاح يذكر فى مضمار التنمية، وإن كان الدخل القومى قد استمر فى الارتفاع، وكذلك متوسط الدخل، فى معظم هذه السنوات الخمسين. أى أننا خلال الخمس سنوات الأخيرة من حكم عبدالناصر، وطول عهدى السادات وحسنى مبارك، وكذلك فى الأربع سنوات التالية لسقوط مبارك، حققنا نموا دون تنمية.

والأمر الثانى: وجود أوجه شبه مهمة، من هذه الناحية، بين عهد الخديو اسماعيل فى ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، وعهد السادات فى سبعينيات القرن العشرين. ففى كلا العهدين تحقق ارتفاع ملحوظ فى الدخل القومى وفى متوسط الدخل، بل وحدث ما أشاع بين شرائح واسعة من المصريين، ما يشبه الشعور بالرخاء، ولكن سرعان ما تبين أن ما حدث فى كلا العهدين، كان أيضا نموا بلا تنمية، وانتهى عصر كل منهما نهاية مأساوية فى الاقتصاد والسياسة على السواء. فقد عزل الخديو اسماعيل من حكم مصر بقرار مهين من الباب العالى فى ١٨٧٩، وقتل السادات أثناء وقوفه فى استعراض عسكرى فى ١٩٨١، كما ترك كل منهما مصر وهى محملة بتركة ثقيلة من الديون، لم تعرف مصر مثلها قط لا قبل الخديو اسماعيل ولا بعد السادات، وأعطت مبررا لانجلترا لاحتلال مصر فى ١٨٨٢، واضطرت مصر بسببها إلى قبول شروط قاسية من صندوق النقد الدولى فى ١٩٨٧، وأعطت مبررا للولايات المتحدة لأن تفرض على مصر الاشتراك فى الحرب ضد العراق فى ١٩٩١.

الذى أعاد إلى ذهنى ذكرى هذه التجارب المريرة، شعور بالخوف من أن نكون الان مقبلين على تجربة يمكن ان يتكرر فيها النمو الاقتصادى الذى لا يقترن بتنمية اذ تقترن زيادة الدخل بإنفاق كبير على بعض المشروعات باهظة التكاليف، ولها مظهر الحداثة، دون ان تحقق زيادة ملموسة فى قدراتنا الإنتاجية مادية أو بشرية، مع اعتماد كبير فى تمويل هذه المشروعات على مصادر خارجية ليست بالضرورة بالسخاء الذى نظنه، وقد تقترن بشروط اقتصادية وسياسية تضطر إلى تحمل اعبائها الأجيال القادمة من المصريين.

دعنا نتذكر قيام الخديو اسماعيل ببناء القصور الشامخة، ودار فخمة للأوبرا، وحديقة حيوانات بديعة، وتوسيع الشوارع والميادين وتجميل القاهرة، وتعبيد الطرق التى سيسلكها الملوك والملكات بين القاهرة وأهرام الجيزة. وقد اتجه انور السادات فى «استثماراته« اتجاها مماثلا، فبمجرد انتهاء حرب اكتوبر ١٩٧٣ شرع السادات فى مشروعات إعادة تعمير المدن الثلاث المطلة على قناة السويس، وهو مالم تكن تسمح بالتوسع فيه أحوال مصر الاقتصادية فى ذلك الوقت، ولكن الاعتراض على ذلك قوبل من رجال السادات بأن الأمر يتعلق «بسياسات عليا» لا يسمح بمناقشتها. تلا ذلك بناء مدينة بعد أخرى من مدينة ٦ اكتوبر إلى ١٠ رمضان إلى ١٥ مايو إلى مدينة السادات، فضلا عن بداية التعمير فى الساحل الشمالى مما اضاف عددا لا نهائيا من المبانى السكنية التى لا يتطلب أى نشاط انتاجى، بل وتترك خالية فى معظم شهور السنة. وفى خلال السنوات الاربع الأخيرة من حكم السادات (٧٧ ــ ٨١ــ١٩٨٢)، كانت القطاعات التى حققت أعلى معدلات النمو (فيما عدا قطاع البترول وقناة السويس) هى قطاعات التجارة والمال (١٢.٥٪ سنويا) والبناء والتشييد (١١.٣٪) والخدمات الحكومية (١٠.٦٪) والنقل والمواصلات والتخزين (٨.٣٪) بينما لم تنم الصناعة والتعدين (بعد استبعاد البترول) بأكثر من ٦٪، وتراخى معدل نمو الزراعة (٢.٣٪) عن معدل النمو فى السكان. ولكن لابد ان نضيف أيضا، فى حالة السادات زيادة الانفاق العسكرى، حتى بعد توقيعه اتفاقية السلام فى ١٩٧٩، فيذكر تقرير لصندوق النقد الدولى صادر فى ١٩٨٤، ان الانفاق العسكرى المصرى زاد بنسبة ٢٠٪ فى اعقاب ١٩٧٩، وبلغت نسبة الزيادة فى عام مقتل السادات ٣٢٪، وكان هذا الانفاق يتم تمويله بقروض ذات اسعار فائدة باهظة الارتفاع.

*******

ما الذى يجعلنا نخشى أن يحدث شىء مماثل لهذا، بعد مرور ثلث قرن على انتهاء تجربة السادات؟ هناك أولا كثرة الكلام عن مشروعات عقارية لا ترتبط من قريب أو بعيد بتوسع صناعى أو زراعى، بل وتوحى اوصافها بتحيز واضح لاستهلاك طبقات الدخل العليا، مع ميل واضح للبذخ الذى لا يتفق البتة مع ظروف مصر الحالية، كالمباهاة بأن مدينة جديدة قيد الانشاء، اكبر من مدينة كذا فى امريكا أو اسيا، وبأنها ستحتوى على مدينة للملاهى تضاهى مدينة ديزنى، ثم تتوالى الاخبار عن مدينة جديدة بعد اخرى، هنا وهناك، دون ان تكون أى منها مرتبطة بمشروع صناعى أو زراعى، فإذا عبر البعض عن استغرابهم لهذا الأمر، اضافت التصريحات الرسمية بضع فقرات عن مساكن لمحدودى ومتوسطى الدخل، وكان اخر الاخبار المدهشة قرار بادخال «الموفوريل» أى قطار يسير فى الهواء، بتكلفة تزيد عن الف مليون دولار للربط بين مدينتين من مدن السادات التى انشئت اصلا لأغراض استهلاكية بحتة.

كل هذا لا يقترن به أى كلام واضح ومفصل عن توزيع أعباء اقامة هذه المدن وتنفيذ هذه المشروعات، بين مصر والشركات غير المصرية التى ستنفذها. يقال ان مصر سوف تعطى الارض مجانا لهذه الشركات، فماذا ستحصل مصر فى مقابلها؟

وإذا كانت الارض لا سعر لها، فى نظر مصر على الاقل، فكم ياترى ستتكلفه مصر فى بناء الطرق وتزويد هذه المدن بالمياه والكهرباء؟ ومن الذى سيتحمل هذه التكاليف؟

هناك أيضا كلام كثير عن اموال خارجية سوف تتدفق على مصر بمناسبة اقامة هذه المشروعات وغيرها، دون بيان واضح لمصادرها وشروطها وما تفرضه على مصر من أعباء، ودون مناقشة لمصادر التمويل البديلة المتاحة من الداخل، والتى كان يمكن توفيرها بأعباء أقل على الأجيال القادمة من المصريين. وقد تذكرت بمناسبة التفكير فى هذا الأمر مثلا شعبيا سمعته من أمى منذ وقت طويل وهو «اللى يستلف للعيش إعذروه، واللى يستلف للحمة إلطشوه».

*******

إن تأمل تجربتى الخديو اسماعيل وانور السادات يجعلنا نلاحظ شيئا اخر مشتركا بين التجربتين. فى الحالتين كان هناك إعجاب مبالغ فيه بمظاهر الحداثة، وافتتان بالمظهر الخارجى دون التساؤل عن النفع الحقيقى الذى يتولد عنه.

إن عبارة الخديو اسماعيل الشهيرة عن رغبته فى ان تصبح مصر قطعة من أوروبا، يقابلها الكثير من أقوال السادات وتصرفاته التى تشى بافتتان مماثل بمظاهر الحداثة الغربية، وشوق إلى تقليدها واقتباسها بصرف النظر عن كل ما تعانى منه مصر من فقر وتأخر. وقد أدى كل هذا الافتتان بمظاهر الحداثة دون اهتمام بتنمية قدرات مصر الانتاجية، إلى ان الخديو اسماعيل تسلم حكم مصر فى ١٨٦٣ وهى مدينة بنحو ١٨ مليونا من الجنيهات، كان عبء خدمتها (اقساط وفوائد) يمثل اقل من ٥٪ من اجمالى ايرادات الدولة، فتركها وهى مدينة بنحو ٩١ مليون جنيه، يبلغ حجم خدمتها السنوية ما يساوى نحو ٨٠٪ من ايرادات الدولة.

أما السادات فقد تسلم حكم مصر من عبدالناصر، ومجموع ديون مصر الخارجية بمختلف أنواعها (مدنى وعسكرى، عام وخاص، ذات الاجل الطويل والمتوسط والقصير) نحو خمسة بلايين دولار فى ١٩٧٠ فأصبحت عند مقتله نحو ثلاثين بليون دولار، أى انها تضاعفت خلال حكمه ست مرات.

كان المفترض ان تكون مصر قد تعلمت الكثير من هاتين التجربتين، فيما يتعلق بالفرق بين نمو الدخل وبين التنمية الاقتصادية، بين بناء وتجميل المدن وبين إرساء الأسس للارتفاع المستمر فى مستوى المعيشة، أى بين مظاهر التقدم وحقيقته.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات