منذ الضربات الإسرائيلية والأمريكية التى استهدفت المنشآت النووية الإيرانية فى يونيو الماضى، تبدو طهران كأنها أعادت ترتيب أوراقها النووية، ولكن فى الظل. بينما تصر الولايات المتحدة على أن البرنامج النووى الإيرانى قد «تعرّض للتدمير الكامل»، فإن وقائع ميدانية وتقنية تقول شيئًا آخر تمامًا: ما لم يتم تدميره، هو القدرة على الإخفاء. وهنا تكمن خطورة اللحظة.
وفق تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس المحافظين فى أوائل يونيو (قبل أيام فقط من الغارات)، بلغ مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪ نحو 409 كيلوجرامات، إضافة إلى قرابة 8000 كيلوجرام من اليورانيوم منخفض التخصيب. وهى كميات تعتبر، وفق معايير التفتيش الدولى، قابلة للاستخدام فى إنتاج عدة رؤوس نووية إن تم تخصيبها بشكل إضافى لن يستغرق وقتًا. هذه البيانات، التى فُسّرت فى حينها على أنها تمهيد سياسى لتبرير ضربات عسكرية، أثارت حملة إيرانية عنيفة ضد المدير العام للوكالة رفائيل جروسى، متهمة إياه بالانحياز، واستناده إلى «تقارير استخباراتية إسرائيلية» بدلًا من عمليات تحقق محايدة.
بعد الضربات، منعت طهران مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى مواقعها، فى سابقة هى الأولى منذ بدء التعاون مع الوكالة فى أوائل الألفية. ومنذ ذلك الحين، لم يعد أحد يعلم على وجه الدقة أين ذهبت الكمية الضخمة من اليورانيوم المخصب.
• • •
وفق تحقيق نشرته وكالة Bloomberg فى 5 أغسطس 2025، فإن إيران سبق وأن هدّدت بأنها ستنقل اليورانيوم إلى «مواقع آمنة» إذا تعرّضت لهجوم. وتشير مصادر الوكالة إلى أن نحو 16 أسطوانة معدنية تحتوى على هذا الوقود يمكن تخزينها ونقلها بسهولة، ما يجعل تتبعه أمرًا شبه مستحيل فى ظل غياب التفتيش.
هذه اللحظة أعادت إلى السطح مصطلحًا ظلّ حكرًا على نظريات الردع فى الحرب الباردة: «الغموض الاستراتيجى»، وهو المبدأ الذى بنى عليه المفكر الأمريكى توماس شيلينج نظريته حول الردع النووى عبر الإيحاء لا الإعلان، والإبهام لا اليقين. إيران، وإن كانت تنكر أنها تسعى إلى قنبلة نووية، باتت الآن فى موقع يسمح لها باستخدام مخزونها كأداة ردع رمزية، دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تعلن عن منشأة جديدة. من المفارقات أن الضربات التى هدفت إلى شل البرنامج النووى الإيرانى، قد تكون منحت طهران سلاحًا غير مادى: هو سلاح الإرباك.
لكن هذا الغموض ليس بلا ثمن. فمن جهة، فإن منع الوكالة الدولية من التحقق يعمّق الشكوك الغربية، وقد يدفع نحو جولة جديدة من الضغوط وربما الهجمات. ومن جهة أخرى، فإن تعنّت الوكالة أو تسييس تقاريرها، كما ترى طهران، يجعل التعاون معها عبئًا أكثر من كونه وسيلة لحماية الحق فى الاستخدام السلمى. وبين الطرفين، يغيب المسار العقلانى الذى يضمن الأمن ويعيد الثقة.
• • •
فى هذا السياق، تبدو خيارات الأطراف جميعًا شديدة الحساسية. فإسرائيل والولايات المتحدة، كما تشير Bloomberg، ستضطران إلى تقييم مدى «القدرة على التساهل مع الغموض»، لأن القضاء على القدرة لا يعنى القضاء على النوايا، ولأن ما لا يمكن التحقق منه لا يمكن نفيه أو تأكيده. فى المقابل، فإن أى محاولة لإجبار إيران على الكشف الكامل دون مقابل دبلوماسى واقتصادى، حتما ستواجهه طهران برفض حاد، وربما تسريع لتكتيك «الهروب إلى الأمام» عبر بناء منشآت أكثر سرية، كما ألمحت تقارير استخباراتية غربية.
إيران تدرك أن لديها أوراقًا، لكنها ليست مفتوحة بالكامل. لا أحد يعرف حتى الآن إن كانت ستختار استراتيجية «الغموض المدروس»، أى الاحتفاظ بالمواد وتجنب استخدامها، مقابل مساحة تفاوض مستقبلية، أم ستتجه نحو الانسحاب الكامل من منظومة الرقابة الدولية، على غرار كوريا الشمالية. وبين هذين المسارين، تظل المفاجآت واردة، والقرار موزّعًا بين عقل الدولة ومزاج اللحظة.
• • •
فى خضم هذا المشهد المعقّد، يبقى مصير اليورانيوم الإيرانى المخصب نقطة اختبار للعقلانية الدولية. فإيران ترى فى إجراءاتها حماية لسيادتها وردًّا على ما تعتبره استهدافًا سياسيًا، بينما تنظر الدول الغربية بعين القلق إلى أى تحرّك خارج الرقابة. بين هذين المنظورين، لا يبدو أن المواجهة أو الانفراج أمر حتمى، بل خيار سياسى يصنعه التوقيت، والثقة، والإرادة.