«السلام فى الشرق الأوسط مجرد وهم كبير.. لم يكن هناك سلام.. وربما لن يكون هناك سلام أبدا.. الجميع يقاتلون من أجل الشرعية».
هكذا لخص توم براك، المبعوث الأمريكى الخاص، جوهر المسألة برمتها، فبعيدا عن مراوغات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بدا مبعوثه أكثر صراحة ووضوحا، «الصراع فى المنطقة ليس على الحدود» التى يراها الرجل مجرد «عملة للتفاوض» بل على الهيمنة، «طرف يريد السيطرة، وآخر عليه أن يخضع»، وبالنسبة إليه، الطرف الذى يجب عليه أن يخضع هو نحن، لأن إسرائيل «لم تعد تعترف بأى خطوط حمراء أو حدود سياسية.. نتنياهو سيضرب فى أى مكان يرى فيه تهديدا لشعبه».
تصريح صديق ترامب وشريكه الصادم الذى أدلى به لـ«سكاى نيوز» قبل أيام، يعكس بوضوح استراتيجية واشنطن تجاه المنطقة، التى عاد الرجل ووصفها بأنها مجموعة «قبائل وقرى».
الشرق الأوسط، وفق العقيدة الأمريكية مجرد وهم، الحقيقة الوحيدة فيه هى الدولة العبرية «قلب أمريكا» فى إقليم لم تعد واشنطن بحاجة إلى نفطه، بينما تسعى دوله لمظلتها الأمنية.
عندما سئل ترامب عن تفاصيل خطته لإنهاء الحرب فى غزة، قال: «يبدو أننا توصلنا إلى اتفاق سينهى الحرب»، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العمومية اقترح الرئيس الأمريكى على وفود عربية وإسلامية، ما وصفه بـ«خطة سلام».
ترتيبات نيويورك وما سبقها، بدا منها أن ترامب ينصب فخا جديدا للعرب، يمنح به إسرائيل ما فشلت فى تحقيقه بالقوة على مدار عامين، الخطة الأمريكية الجديدة، ليست سوى محاولة للهيمنة على القطاع، وخلخلته من كتلته السكانية، وتسليم زمامه إلى «متعهد» ينفذ مشروعات مطورى العقارات الأمريكيين.
الرئيس الأمريكى وعد بعض قادة المنطقة بـ«عدم السماح بضم الضفة الغربية، ووقف إطلاق النار وانسحاب تدريجى للجيش الإسرائيلى من غزة»، شريطة ألا يكون هناك دور مستقبلى لحماس فى حكم القطاع الذى ستدير شئونه «لجنة دولية».
لم يفصح ترامب عن تفاصيل خطته المريبة، إلا أن وسائل الإعلام تكفلت بالأمر، فتحدثت عن اتجاه الإدارة الأمريكية إلى تكليف رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير برئاسة الهيئة المؤقتة التى ستدير القطاع.
ووفقا لصحيفة «هاآرتس» العبرية، تتولى لجنة بلير، الإشراف على إعادة إعمار غزة وإدارتها بمشاركة قوات دولية تراقب وتحمى الحدود، وهو ما يعنى السيطرة على غزة أمنيا وإداريا، أى إخضاعها بالكامل ونزع سلاحها دون أن يتكبد جيش الاحتلال أى خسائر، إذ ستنقل المهمة إلى «قوات عربية وإسلامية تعمل تحت قيادة دولية»، وهنا بيت القصيد؛ فوضع قوات عربية وإسلامية لنزع سلاح حركات المقاومة، يعيد إلى الأذهان سيناريو أحداث أيلول الأسود.
بعض الأطراف العربية، وفى مقدمتها القاهرة، تحفظت على إشراك أطراف دولية فى إدارة الشأن الفلسطينى، خصوصا أن الفلسطينيين قادرون على إدارة القطاع، وهناك بالفعل قوات شرطة فلسطينية يجرى تدريبها فى مصر والأردن على حفظ الأمن وتوزيع المساعدات.
لا تخلو جعبة واشنطن من حيل، ولن يتوقف مسئولوها عن نصب الفخاخ للعرب، لن تكون آخرها إعادة «المندوب السامى البريطانى» ليحكم غزة. المشكلة لا تكمن فقط فى رفض المقاومة الفلسطينية وبعض العرب السقوط فى ذلك الفخ، بل فى تعنت نتنياهو الذى طرح مشروعه الخاص فى خطابه بالأمم المتحدة «سنجرد غزة من السلاح، ونفرض عليها سيطرة أمنية كاملة.. وننشئ سلطة مدنية تلتزم بالسلام معنا»، ما يعنى أن الرجل يسعى إلى هيمنة إسرائيلية مطلقة على القطاع، وهو تعبير عن مشروع طرح تفاصيله قبل عام، يضمن له السيطرة الكاملة على غزة لمدة 10 سنوات، ما يسمح بتغيير هويتها وعقيدتها السياسية والعسكرية.
يبحث ترامب عن صيغة تضمن لإسرائيل استقرارا طويل الأمد وتحفظ لبلاده مصالحها مع دول المنطقة الغنية، وتعيد فتح باب اتفاقيات التطبيع الذى أغلق بعد «طوفان الأقصى»، أما نتنياهو فيلهث وراء «انتصار مطلق» يضمن استسلام الفلسطينيين جميعا، لا حماس وحدها، ويكرس هيمنة كاملة لدولته طمعا فى تحقيق حلمه التوسعى والحفاظ على مستقبله السياسی، وبين هذا وذاك يواصل العرب الركض خلف «أوهام» تجنبهم اتخاذ مواقف حاسمة ومكلفة، رغم أن تكلفة التردد أفدح بكثير.
آن الأوان كى ندرك أن ما يتعرض له الفلسطينيون واللبنانيون، ليس سوى رسالة لكل دول المنطقة، فالمشروع الأمريكى ــــ الإسرائيلى فى الشرق الأوسط قائم على إخضاع الجميع والهيمنة على مقدراتهم، والتعامل معهم كقبائل غير مؤهلة لإدارة شئونها.
إذا أراد العرب النجاة، فعليهم أن يبحثوا عن أبواب أخرى غير الباب الأمريكى، وأن يعملوا على بناء نظام إقليمى يضع مصالح شعوبهم فى صدارة الحسابات، نظام قادر على مواجهة التحديات والمخاطر التى تستهدف بقائهم وشرعيتهم لا حدودهم فحسب.. فلن ينجو أحدا منا بمفرده.