«سلام على إبراهيم».. جدل المؤرخ والفنان - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 2:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سلام على إبراهيم».. جدل المؤرخ والفنان

نشر فى : السبت 6 يناير 2024 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 6 يناير 2024 - 8:25 م
ما زالت أسئلة التاريخ تؤرق المؤرخ والأكاديمى المرموق د. محمد عفيفى فى معالجاته الروائية، فبعد أن طرح فكرة نسبية الحقيقة التاريخية فى روايته الأولى «يعقوب»، ها هو يفرق بوضوح بين التاريخ والفن فى روايته الثانية «سلام على إبراهيم»، الصادرة عن دار الشروق، ويفرق كذلك بجرأة بين رؤية المؤرخ، ونظرة الفنان الذى يستلهم التاريخ.
هاجس التاريخ ما زال مسيطرا، ليس فقط باختيار شخصيات تاريخية مثيرة للجدل كمحور للروايتين، ليكون «المعلم يعقوب»، الذى تعاون من الفرنسيين، وقام بتكوين الفيلق القبطى، بطلا للرواية الأولى، وليصبح إبراهيم باشا، القائد العسكرى الفاتح، ابن محمد على الكبير، بطلا للرواية الثانية، ولكن أيضا باتخاذ سيرة الشخصيتين منطلقا للانحياز لمنهج التعامل مع التاريخ كشهادات مختلفة، وكزوايا متنوعة للرؤية، وليس كحقيقة مطلقة ثابتة، أى رفض النظرة الأحادية، والانفتاح على حقائق كثيرة ومتنوعة.
أشرت فى قراءتى لرواية د. عفيفى الأولى عن «المعلم يعقوب» إلى جرأة هذه النظرة، لأنها صادرة بالأساس عن مؤرخ، ولعل لجوء د. عفيفى إلى الرواية لخلخلة ثبات الحقيقة، يرجع بالأساس إلى الحرية التى يقدمها الفن، بمزج الواقع والخيال، وتعدد وجهات نظر السرد، والتدليل بذلك على أن التاريخ أيضا «حمال أوجه».
فى الرواية الثانية، سيقدم د. عفيفى إبراهيم باشا وعلاقته مع والده محمد على، من عدة زوايا ووجهات نظر، وسيفكك الكثير من الروايات والشهادات المتواترة عن تلك العلاقة، والتى تتباين بشدة بين الإعجاب والحب، والغيرة والخوف من القتل.
ولكن رواية «سلام على إبراهيم» توسع الفكرة لتضع التاريخ فى مواجهة الفن الذى يستلهم التاريخ، أو بمعنى أدق، تضع علم التاريخ فى مواجهة الفيلم التاريخى، والأخير يعامل أحيانا، عن خطأ، باعتباره تاريخا حقيقيا، دون اعتبار لحرية الفن، ودون انتباه إلى أن الفنان يختار ما يترجم رؤيته، ويغير ويبدل بحرية، تعبيرا عن نظرة ذاتية، ومنحازة بالضرورة.
جمعت الرواية بين تعدد وجهات نظر المؤرخ، وتعدد وجهات نظر الفنان، من خلال واقعة حقيقية، ففى العام 1946، كان الملك فاروق، والنظام الملكى المصرى، يعانيان مأزقا خطيرا، فطرح أحمد حسنين باشا على الملك، فكرة عمل فيلم روائى ضخم عالمى، فى مناسبة مرور مائة عام على وفاة إبراهيم باشا، وفيلم روائى عالمى آخر، فى مناسبة مرور مائة عام على وفاة محمد على، وكانت المناسبتان قريبتين.
ورغم وفاة حسنين باشا، فقد تواصل الاهتمام بالفكرة بحماس فاروق، وبرعاية مستشاره الصحفى كريم ثابت، وبدأ فعلا الإعداد لكتابة عن فيلم إبراهيم باشا، من خلال لجنة مكونة من حسنى نجيب رئيس استديو مصر، ويوسف وهبى الفنان الشهير، وشفيق غربال المؤرخ الكبير، وتابعت اللجنة اجتماعاتها لكتابة تصورها عن سيناريو الفيلم.
هذه واقعة مثالية تضع المؤرخ غربال فى مواجهة اثنين من الفنانين، وتختبر ما يسمى بحقائق التاريخ، عبر مشروع دعائى يستهدف إنقاذ الملكية، وتفتح الباب أمام اكتشاف وجهات نظر مختلفة حول تاريخ إبراهيم، ومحمد على، ووجهات نظر فنية متباينة أيضا حول عمل فيلم روائى كبير. والرواية فى جوهرها ليست سوى تخيل كواليس حوارات ومجادلات هذه اللجنة، وتخيل كواليس الظرف السياسى، الذى دفع فاروق للحماس للفيلم، ثم سبب انتهاء حماسه إلى الفتور بعد ذلك.
سيصبح غربال تحديدا فى صراع بين دوره ضمن فريق الفيلم الدعائى، وبين مهمته كمؤرخ، يفترض ألا يحجب شهادة مهما كانت سيئة، وبينما يحسم يوسف وهبى من البداية انحيازه إلى منطق الفن و«حركاته»، فإن أحمد رامى يبدو مثاليا فى ضرورة تقديم الصورة بكل ظلالها، والابتعاد عن المبالغة، وتبييض الوجوه، وتحويل البشر إلى ملائكة.
هذه إجمالا قضية الرواية، التى تنتهى إلى فراق بين منطق الفنان، ومنطق المؤرخ، وإن كان التعدد، والتناول المختلف حاضرين فى الفن والتاريخ معا.
ولكن مشكلة الرواية الواضحة فى أن صراع المؤرخ والفنان موجود أيضا داخل الكاتب د. عفيفى، فالمؤرخ بالذات ما زال مسيطرا، بينما لا يمارس الفنان حريته فى إيجاد المعادل الفنى المطلوب للفكرة النظرية.
يمكن ملاحظة ذلك فى تغلب السرد التاريخى والتحليلى على فصول الرواية، بل إننا فى الواقع أمام ملخص معالجة درامية، لا تحقق بناء متماسكا، ولا تقوم بتضفير الخطوط معا، وتفتح الباب لأصوات تقتحم البناء، مثل صوت الممثلة كاميليا، وصوت الصابر الخادم النوبى للملك فاروق.
فى الوقت الذى بدا موقف غربال، وموقف رامى، مفتقرين إلى حجج قوية، فى الانحياز إلى وجوه التاريخ الصادمة، فالأول مؤرخ انحاز دوما للأسرة العلوية، وهو أيضا وكيل وزارة المعارف، والثانى هو مؤلف أوبريت «مواكب العز» فى فيلم «غرام وانتقام»، الذى يتغزل فى مناقب الأسرة العلوية، والاثنان يعرفان منذ البداية أنهما بصدد عمل فيلم روائى دعائى صريح، وبالتالى يبدو غريبا أن يختلفا مع يوسف وهبى، الأكثر اتساقا ومنطقية، بل إنه الشخصية الأفضل فنيا فى الرواية كلها، سواء من حيث مواقفه، أو أسلوبه المعروف، فى الحوار والسخرية.
قد تكون فكرة د. عفيفى فنيا أن يصبح السرد كله مختزلا مثل القصة السينمائية، أو المعالجة المكثفة، وهناك بالفعل تضمين داخل الرواية لما يقترب من المعالجة السينمائية المبدئية، مرة من وجهة نظر رامى، ومرة أخرى من وجهة نظر يوسف وهبى.
ولكن فن الرواية يحتاج إلى تعميق الكثير من الخطوط والشخصيات، ويحتاج أيضا إلى بناء متماسك، وتحتاج دوافع الشخصيات بالذات إلى عناية تعادل العناية بسلوكها وتصرفاتها، مع الابتعاد عن النبرة التقريرية التاريخية، ومنح شخصيات مثل فاروق لمسات مختلفة، تبتعد عن الصورة النمطية، ليس من باب التعاطف، ولكن لأن منهج السرد كله ينحاز للنظرة المزدوجة والمراوغة للبشر والأحداث.
حسم د. عفيفى رؤيته فى الدفاع عن حق الفن فى قراءة التاريخ، وأحسب أن الفنان فى داخله سيحسم صراعه، وسيتغلب على المؤرخ، فى قادم الروايات!
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات