النقود والأجور - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النقود والأجور

نشر فى : الأربعاء 7 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 7 مارس 2012 - 8:00 ص

أشرنا فى المقال السابق إلى أن العالم دخل مرحلة جديدة أضافت للنقود دورة جديدة ذاتية إلى دورها التقليدى كواسطة للتبادل بين المنتجات أو لامتلاك جانب منها، وإلى أن هذه الدورة خلقت أبعادا فلكية بالقياس للدورة العادية المرتبطة بالاقتصاد العينى الذى هو المقصد الأساسى للسعى البشرى فى الحياة. وواضح أن هذا له انعكاساته البالغة على المكتسبات النقدية التى يتحصل عليها الأفراد خلال هذا السعى الرامى إلى الحصول على نصيب من نواتج الاقتصاد العينى. ومن بين أهم هذه المكتسبات، الأجور التى تصدرت قائمة اهتماماتنا ومشاكلنا هذه الأيام. وقد اعتدنا أن ننظر إليها فى نطاق الدورة الاقتصادية العينية. ولكن استقلالية الدورة النقدية وتضخمها البالغ أضاف بعدا آخر أشد خطرا، نادرا ما يجرى تناوله بشكل مباشر يرده إلى مقوماته ضمن الإطار النقدى للإنتاج.

 

●●●

 

ففى هذا الإطار الأخير ينظر إلى الأجور عادة من زاوية المبالغ النقدية التى يحصل عليها الفرد نتيجة عمل يؤديه فى نشاط يفضى إلى ناتج اقتصادى له قيمة تتحدد بسعر نقدى يتناسب مع أهميته لدى المجتمع. ولما كانت الحاجات الأساسية أشد ضرورة للحياة فإن أسعارها تتجه إلى الارتفاع وهو ما يدفع لتلبيتها بالقدر الذى يحد من تجاوزها لقدرة أقل الناس دخلا. وهكذا يتجه المجتمع إلى أن تظل قيمة ما يحتاج إليه الفرد خلال فترة محددة بالقدر الذى يستطيع أن يخصص له جانبا معقولا من دخله النقدى خلال تلك الفترة، يمكّنه من تدبير احتياجاته من الضروريات جميعا. فإذا ارتفع سعر أحدها فاضطر إلى تخصيص نسبة أكبر من دخله له، عمل على إنقاص استهلاكه منه بقدر يقل كلما كانت الحاجة إليه أشد. فإن ظل إنفاقه أعلى فإنه يضطر إلى تعويض زيادة إنفاقه النقدى عليها بخفض إنفاقه على غيرها مما هو أشد إلحاحا فى ضرورته. ويبدأ هذا باقتطاع جانب مما يدخره لتدبير حاجات آجلة، أو بخفض ما يوجه للإنفاق على الكماليات ثم على الضروريات الأخرى الأقل إلحاحا. وعندما طرح إلغاء الدعم على الخبز والكيروسين فى 1976 (وهو ما أدى لانتفاضة الخبز فى يناير 1977)، أجريت حسابات تستند لدراسات ميزانية الأسرة أوضحت أن الأثر المباشر هو اضطرار نسبة كبيرة من المستهلكين ذات الدخول المحدودة ستضطر إلى خفض استهلاكها من منتجات أغلبها ذات منشأ محلى تنتجه منشآت صغيرة ومتوسطة، الأمر الذى يؤدى إلى خفض أسعارها وربحيتها وإلى انكماشها وبالتالى تناقص التوظيف فيها، وهو ما ينتهى إلى انخفاض الناتج المحلى والبطالة ويعرقل التنمية.

 

يضاف إلى ذلك أن المشتغلين بالمهن الحرة قد يلجأون لرفع أجورهم فى وقت تنخفض فيه القدرات الشرائية لعملائهم من ذوى الدخول الثابتة. فبينما كان أجر الوزير يبلغ آنذاك جنيها لساعة عمل فى يوم عمل تسع ساعات، كان أجر السمكرى الذى يصلح حنفية مياه مقابل ثلاثة جنيهات. وقد حدث هذا بسبب فتح باب الهجرة بعد حرب 1973، فأدى ذلك لقفزات فى أجور الحرفيين لتأثرها بالمستويات شديدة الارتفاع فى الدول النفطية ونزوح المهرة منهم، فارتفعت أجور من دخل السوق من الأقل مهارة. واقترنت الحركة عبر الزمن باتجاه عام مستمر لارتفاع الأسعار عامة والأجور النقدية، اشتد مع تنامى الظاهرة النقدية التى أشرنا إليها فى المقال السابق. أتذكر قول أحد كبار العاملين فى وزارة الأوقاف لى من أنه لا ينسى فضل والدى الذى أوصى بتعيينه قبل الحرب العالمية الأولى براتب شهرى قدره 120 قرشا، مكنه تدرجه من حسن تربية أولاده والإنفاق على تعليمهم وامتلاك عقار يعينه إيراده على مواجهة التزايد فى أعباء الحياة. وحينما تخرجت فى الجامعة فى منتصف الأربعينيات استطعت أن أبدأ حياة مقبولة براتب 12 جنيها وهو المخصص للدرجة السادسة التى تقع فى موقف متقدم من الكادر الحكومى. واليوم نتحدث عن 100 مثل له كحد أدنى. وإذا كان تقدير هذا الحد قد تم قبل سنتين على ضوء الأسعار السائدة حينذاك، فإنه يفقد مغزاه بسبب الارتفاع المستمر فى الأسعار.

 

●●●

 

الحديث عن الأجر اللائق يجب أن يجرى فى ظل أمور ثلاثة، الأول: الشريحة المعنية به من شرائح المجتمع، فى ظل منظومة معينة للأسعار. والثانى: القواعد الحاكمة لأسعار الحاجات الضرورية، بما فى ذلك ما توفره الدولة مجانا أو بتكلفة محدودة، وما يتركه مجتمع يرفع راية الانفتاح للقطاع الخاص فتقفز تكاليف الخدمات الأساسية للتعليم والصحة إلى مستويات تلامس ما هو سائد فى مجتمعات شديدة الثراء. والثالث: تداعيات التطور المتسارع فى الاقتصاد النقودى وفى القطاعات المستحدثة، وهو ما يجدر بنا تأمله لأنه يشكل العنصر الطاغى على الحاضر والمستقبل. ومعلوم أن الأجر النقدى يحسب عادة على أساس ناتج الجهد المبذول فى وحدة الزمن، ويقدر بأجر الساعة، كما قد يحسب على أساس الأجر بالقطعة، إذا أمكن تحديد حجم ناتج الجهد المبذول للحصول على سلعة أو خدمة معينة، وهو ما يسود فى القطاعات الخدمية. وبالتالى فإنه إذا تساوى الجهد فى عمليتين نقديتين مختلفتين فى حجم الناتج جرى حساب الأجر على أساس القطعة مقدرة بقيمة الناتج. ويتميز الاقتصاد النقودى بأن حجم الجهد المبذول فيه لا يتناسب مع حجم التعامل المترتب عليه. فجهد تحريك جنيه من حساب إلى آخر لا يكاد يختلف عن تحريك مليار. ومع تنامى الاقتصاد النقودى حدث تغير جذرى فى أسس حساب وحدات الأجر انعكس على قواعد التوزيع فى الاقتصاد العينى.

 

فى أوائل الثمانينيات ظهر التكلس كمقدمة لانقلاب فى قطاع الاتصالات، وكان القطاع النقودى من أسبق القطاعات التى استخدمته وأعادت تنظيم عملها وفقا له. أذكر أن رئيس صندوق النقد العربى أعرب يوما عن انبهاره بمهارة مدير الدائرة المالية بالصندوق إذ أجرى له معاملة نقدية لم تكلفه شيئا، ولكنها أكسبته فى نفس اليوم 100 ألف دولار، وعقب على ذلك «إننى على استعداد لمنحه أى أجر يطلبه». وهكذا انسحب عدد من الناشطين إلى القطاع النقودى وشكلوا فئة تتسم بالجرأة فى اتخاذ قرارات محفوفة بمخاطر هائلة تقبل المؤسسات النقدية تحملها أملا فى عوائدها التى لا تتوافر لأى قطاع آخر. والأهم من ذلك أن الخبرة فيها ترتبط بالجرأة أكثر منها بتنمية المهارات عبر الزمن. ولما كان الشباب أكثر استعدادا للمغامرة بينما يصاب كبار السن بآفة الإفراط فى الحذر بسبب ما قد يكون صادفوه من أحداث، فإن هيكل الأجور بدأ ينحاز للشباب الواعدين وضد الكبار المتمرسين. ونشهد مثل هذا فى مصارفنا التى تتولاها إدارات جديدة فتحيل الكبار الحذرين إلى المعاش المبكر، وتستعين بشباب تتستر على خسائر تسببها رعونتهم. وقد تكتم البنك الدولى على خسائر سببتها مضاربات أحد العاملين فيه فى منتصف الثمانينيات حرصا على سمعته. وانتقلت هذه القواعد إلى عابرات القوميات، فأصبحت طبقة المديرين التنفيذيين أكثر ثراء من الرأسماليين الذين ثار عليهم كارل ماركس، وأكثر صفاقة منهم.. وليس تعاملهم مع أوباما خلال الأزمة النقدية الأخيرة ببعيد عن الذاكرة.

 

●●●

 

نستخلص من ذلك أمرين جوهريين: الأول ضرورة إعادة هيكلة المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى وتصويب العلاقات بين أجور العاملين فيها وانعكاساتها على باقى الاقتصاد. والثانى معالجة الأجور بصورة مستمرة فى ظل تصويب لمنظومة الأسعار، وما يعنيه ذلك بالنسبة للسياسات المالية والنقدية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات