أطفال فى زمن الغدر - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أطفال فى زمن الغدر

نشر فى : الثلاثاء 6 ديسمبر 2016 - 9:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 6 ديسمبر 2016 - 9:55 م

«مدت كفها الصغير لتلمس وجهى عبر الشاشة الالكترونية فلم تصل إليه ولكنها حركت قلبى من مكانه». كلمات كتبها أب أجبرته ظروف حكم بغيض يكره الأطفال على أن يبتعد عن أطفاله ومنهم هذه الطفلة. غريبة هذه المرحلة التى نعيشها. لا أظن أن مرحلة أخرى عشتها رأيت فيها كل هذا العدد من أطفال يتعذبون وأهلهم من عجزهم يائسون. هذه الطفلة تسعى بأناملها لتلمس وجه أبيها، لم تزعج أحدا ولم تخرق قواعد الأمن القومى ولن تهدد استقرار البلاد. تريد فقط لحظة حب.
***
صورة بيت، أو ما تبقى من بيت. قطع الأثاث محطمة وحاجيات الناس متناثرة. تظهر من بين الحطام رأس دمية بشعرها الأصفر المكسو بالتراب وبعينين زرقاوتين باردتين، ومع الرأس خرجت يد الدمية من بين الركام ممدودة. هناك على بعد خطوات من اليد الممدودة وقفت طفلة لا يتجاوز عمرها سنوات تسع تحمل طفلة فى الثانية من عمرها أو أكبر قليلا. الدماء مختلطة بالدموع تسيل على خد الطفلة الأكبر، تمشى بخطوات حذرة بين قطع الحجارة وأسياخ الحديد وشظايا القنابل، عيناها تبحثان فى الأرض عن موقع لقدميها ثم فى الأفق عن سيارة اسعاف أو رجل إنقاذ يحملهما معا. أما الطفلة الأصغر فلم يظهر منها ومن الصدر الذى احتضنها سوى إصبع يشير إلى اليد الممدودة بين الحطام، يد دميتها التى فقدتها مع أمها وأبيها فى الغارة الجوية التى استهدفت بيتهم. تريد احتضان دميتها، تريد شيئا من حب تراه بين الدمار لا يموت.


***
مشيت فى شارع الحمرا، وما أدراك ما شارع الحمرا. هو شارع الأنوار والألوان والمقاهى والمحلات والمكتبات والمطاعم ومسرح المدينة، شارع التحرش البرىء والتسكع الراقى بالسيارات أو على الأقدام، وهو الشارع الذى لم تمسه يد الدمار فى الحرب الأهلية أو خلال الغزو الإسرائيلى. احترمته الطوائف جميع بأحزابها وزعاماتها. مشيت فى الشارع وللمرة الأولى فى أربعين عاما متحسرا. رأيت أطفالا تحت العاشرة من أعمارهم يتسابقون فى الجرى على أرصفة الشارع ويلعبون ويضحكون، فجأة تقترب الطفلة لتسأل المتسكع من أمثالنا إن كان لديه ما يتنازل عنه لعشائهم. ترتسم على وجهها لحظة السؤال مسحة حزن خفيف الظل تزول بعد ثوانٍ لتعود إليه ضحكات اللعب والشقاوة. ينتصف الليل فأرى الأطفال وقد تكونوا نياما على مداخل بنايات الحمرا بعد يوم طويل من اللعب واللهو وإن بكرامة منقوصة ونفس مكسورة.


***
نقرت بأصابع ضعيفة زجاج السيارة. التفت ناحية النقر لأرى طفلة يصعب تقدير عمرها تتمتم بما لا يصل إلى سمعى ولكن بما يبدو أنه طلب مساعدة نقدية. دققت النظر. هذا الوجه أعرفه أو لعله مألوف. العيون واسعة والشعر يميل إلى الصفرة لا أظن أنها صفرة الألوان الاصطناعية التى يستعملها مزينو النساء، ربما صفرة الشمس. الذراعان ضعيفتان والأصابع قصيرة وعظامها بارزة. انفتح المرور فتحركت السيارة بعيدة عنها ولم أشبع فضولى. نظرت خلفى فرأيت عجبا وفهمت سبب ظنونى حين راودنى شك فى أننى أعرف صاحبة هذا الوجه. الطفلة التى كانت تنقر زجاج السيارة متوسلة قطعة أو ورقة نقود رأيتها حاملا. نعم هى نفسها الطفلة الشقراء التى كنا نشفق عليها قبل خمس أو ست سنوات ونحن نتساءل من أى رحم أتت وإلى أى مصير تنتهى. هى نفسها الطفلة التى اصطحبتها صديقة من نشطاء المنظمات الأهلية إلى حيث كان يمكن أن تجد رعاية وطعام وحمام ساخن مع غيرها من بنات شوارع. قضت هناك أياما قبل أن تطلب مقابلة صديقتنا الناشطة لتعترف لها أنها لم تنم الليل وأنها غير سعيدة فالرصيف بيتها وفى الشارع مستقبلها ومصيرها. أكاد أجزم بأنها الطفلة نفسها التى فضلت الحرية على نعيم منغلق حين تمردت على العيش فى بيت البنات وعادت إلى غابة الشوارع.
***
كتبت الصديقة رافيا قضمانى عمن تبقى من أطفال فى سوريا بعد أن مات منهم خلال سنوات الحرب نحو 2.9 مليون طفل. هناك أكثر من مليون ضاعت عليهم فرصة تلقى العلم، ومئات الألوف من أطفال سوريا مرضى، وعشرات أو مئات من أطفال معسكرات اللاجئين يتعرضون يوميا للاغتصاب أو الاختطاف من أجل نزع أعضاء من أجسادهم أو الشراء للزواج المبكر. عشرات من أطفال هذا البلد العربى الكريم يموتون غرقا فى بحرى إيجة والمتوسط. لا يخفف من ألمى وانزعاجى أن عددا معتبرا من نساء الجمعيات الأهلية المصرية يعملن فى صمت على شواطئ تركيا وجنوب أوروبا وفى لبنان ومصر لإنقاذ من يمكن إنقاذه وإعالة عائلات وتعليم أطفال فقدوا الأهل والوطن.


***
شاهدت ضمن ملايين المشاهدين وبقلب يئن صورا عديدة لنساء يلقين بأطفالهن إلى من لا يعرفن قبل أن يسقطن فى اليم غرقا. قرأت ضمن ألوف القراء عديد التقارير الصحفية عن الأطفال غير معروفى الأهل الذين تسربوا مشيا على الأقدام عبر الحدود إلى داخل أوروبا. هؤلاء الأهل ليسوا أفضل حالا من أهل ألقوا بأطفالهم فى قوارب مهاجرين واثقين من أنهم لن يروا فلذات أكبادهم مرة أخرى.
يحدث هذا فى بلادنا، عربية كانت أم آسيوية أم إفريقية، لأن حكاما خلت قلوبهم من رحمة ودين شاءوا أن يستبدوا أو يستعبدوا شعوبهم، وحكاما تدخلوا بالسلاح والمال والأفراد ليس حبا فى الشعوب ولكن كرها فى حكام آخرين أو حقدا عليهم، وحكاما لم يحظوا بقدر مناسب من خبرة السياسة وأصول الحكم أساءوا الإدارة فانتشر الفساد وتفككت المجتمعات.


يحدث هذا فى بلادنا لأن بعض رجال الدين وحوارييهم خرجوا عن أبجديات أديانهم فراحوا يمجدون فى مدارسهم ومعاهدهم الكراهية ويتناقلون الروايات الكاذبة والأخبار الزائفة وينشرون الجهل والخرافات. أهمل هؤلاء التسبيح لخالقهم ومشوا أفرادا وزرافات يسبحون بحمد أولياء نعمتهم من الحكام وأعوانهم.


***
لم أعرف أن الأطفال إلى هذا الحد مزعجين للمسئولين العرب. يطلبون منهم السلام والطعام وحليب الأطفال، يتمسكون بالدمى ولعبهم البلاستيكية ومساحات خضراء للتنفس واللعب، يريدون أبا وأما لا يغترب أحدهما عنهم وإن اغتربا فبهم ومعهم، يريدون أحضانا وقلوبا عامرة بالحب. نعم يريدون أشياء كثيرة كلها حق لهم ولكنهم بالتأكيد لا يريدون أن تكون نهاية كل منهم جسدا مكوما ألقت به الأمواج على شاطئ.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي