عن محمود الذى ربما تعرفونه - سلمى حسين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن محمود الذى ربما تعرفونه

نشر فى : الثلاثاء 7 يوليه 2009 - 9:32 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 يوليه 2009 - 9:32 م

 عمره ستة وعشرون عاما. تخرج فى جامعة القاهرة. ابتسامته ساحرة، وإن فقدت لمعة كانت تشع من عينيه. عندما جاء يزورنا لأول مرة فى منزلنا، بأحد أحياء الطبقة الوسطى، سأل أمه وهو عائد إلى بيته فى الخصوص: «لماذا لا ننقل بيتنا كما هو إلى هذا الحى؟». كان عمره وقتها ست سنوات. ولكنه رغم الملاحظة الذكية لم يذق قسوة التفاوت الطبقى إلا عندما دخل الجامعة. فطوال سنين المدرسة كان محاطا بأقرانه من الجيران وأصدقاء الفصل والعائلة. أما فى مجتمع الجامعة فلأول مرة يصطدم بمعنى أن تجد نفسك فى أسفل السلم الاجتماعى. «مشكلة محمود أنه يبُصُّ لغيره»، هكذا كانت تقول أمه. ولكنه فى الحقيقة لا يبص إلى السيارات الفارهة ولا الملابس باهظة الثمن.

إنه يرى فقط الفرق بين ما لا يستطيع أن يلتقطه من فرص الحياة الكريمة وما يمكن لغيره أن يحصل عليه من فرص أفضل فى الحياة. هى أشياء لا تشترى. أو لا يجب أن تشترى. مثل ذلك الفرق بين الشارع الأسفلتى والشارع المترب الذى يقطن فيه، المشبع بجميع أنواع مخرجات الجسم البشرى والحيوانى. مثل نوع التعليم الذى تلقاه فى مدرسته الحكومية والتعليم فى المدارس الأجنبية الذى على ما يبدو له يجعل الطالب أكثر فهما للمواد الدراسية. مثل ذلك الصنبور الفضى الذى تلف مقبضه فينساب منه الماء. وهو من لا يعرف الماء إلا صبا من وعاء بلاستيكى. حين كان فى السنوات الأولى للمدرسة كان من المتفوقين. إلا أن منحنى أدائه التعليمى أخذ فى النزول حتى استغرق ست سنوات ليحصل على ليسانس الآداب بدرجة مقبول. ولا يعلم محمود لذلك سببا. وإن كان خبراء الأمم المتحدة قد قاموا بدراسات عن ما أسموه «فقر الإمكانات»، والذى يعانى منه على الأقل أربعة من كل عشرة من المصريين، نتيجة سياسات اقتصادية جاهلة أو فاسدة. إلا أنه لا يعلم عن ذلك أيضا ليظل ناعيا حظه العثر. ولا يعلم عن الكساد الذى ألم بمصر فى منتصف الثمانينيات، عندما كان يتعلم خطواته الأولى، فأقعد والده سائق النقل فى منزله فلم يكن يحصل من الطعام على ما يكفى لبناء خلايا عقله. ولا يدرك أثر تلك الغرفة المظلمة التى كانت منزل طفولته الأولى على نموه. فكل ما يعيه هو أن أباه وأمه يشقان ليؤمنا له ما يستطيعان من احتياجاته هو وإخوته الذين جاءوا بعده.

كان أول من يدخل الجامعة فى العائلة. لذا كانت الفرحة كبيرة. ولكنها سرعان ما انطفأت منذ العام الأول من سنين الجامعة. فما يدرسه لا يطيقه بل فرضه عليه المجموع. والمحاضرات المكتظة بالطلبة لا يفهم منها شيئا. والأمل فى أن يحصل على وظيفة محترمة معدوم. والآن بعد أن أنهى دراسته الجامعية بعامين، يظل محمود قعيد البيت لا يجد عملا. وليس لأنه لا يبحث. وفى هذا أيضا هو ليس استثناء.

فمن بين كل عشرة عاطلين عن العمل ثمانية شباب من خريجى التعليم العالى والمتوسط. أى من هم مثل محمود. ويصف تقرير صدر منذ شهر لمنظمة العمل الدولية هذا الوضع فى مصر بأنه «هدر كبير لإمكانات أفضل عناصر المجتمع من الشباب المتعلمين». مع العلم بأن من يجدون عملا فى مصر هم الفقراء وغير المتعلمين، فى وظائف غير مؤمن عليها ورواتب ضئيلة لا ترفعهم من حالة الفقر، كما يلاحظ نفس التقرير الذى لم يسمع عنه محمود، ولكنه يراه حقيقة يعيشها أخوه الأصغر الذى لم يكمل تعليمه بعد المرحلة الإعدادية، ولكنه ينط من شغلة لأخرى مرة كسائق، ومرة كعامل فى فندق بالبحر الأحمر، ويظل يأخذ مصروفا من أهله لأن راتبه لا يكفى لأن يأكل ويشرب ويسكن مع زملائه العشرين فى الشقة التى يستأجرونها. فلماذا يعمل عبده ويبقى محمود فى البيت؟ هذا ما أجابت عنه الحكومة مؤخرا.

تقول الحكومة أن أمثال محمود إنما يحتاجون إلى التدريب حتى يستطيعوا الالتحاق بفرص العمل التى تتيحها مصانع القطاع الخاص والتى تعانى من نقص الأيدى العاملة المدربة. وأنها وضعت خطة قومية لتشغيل 3 ملايين عاطل من الشباب. أهم محاورها هو التدريب والذى سيتكلف وحده 4 مليارات جنيه. لذا ما كان من الشاب الوسيم «محمود» إلا أن تقدم ليحظى بذلك التدريب مضحيا بصورته الاجتماعية كخريج جامعة «وهو ما سيضعه فى مأزق إذا ما تقدم لخطبة فتاة يحبها، لأن أهلها قد لا يودون أن يزوجوا ابنتهم لعامل»، كما قال. ولكنه حين اتصل بالرقم المختصر لتدريب شباب الخريجين عرضوا عليه تدريبا مدفوع الأجر لمدة ثلاثة أشهر، تليه فرصة عمل فى نفس المصنع، على أن يأخذ أجرا ثلاثمائة وخمسين جنيها فى الشهر. وهو بحسبة بسيطة أجر لن يكفى مجرد المواصلات من وإلى المصنع. وهو ما دفعه لرفض العرض. هذا عن محمود الذى قد لا تعرفونه. فماذا عن محمود الذى يعرفه الجميع؟

أعنى محمود محيى الدين، وزير الاستثمار والذين معه. هو فى الواقع يدافع عن هذا الأجر الهزيل، متجاهلا توصيات المؤسسات الاقتصادية الدولية. فيقول حرفيا «أنا أفضل أن يلتحق شخص ما بهذا العمل على ألا يجد أحد أى فرصة عمل على الإطلاق». وهو بهذا إنما يتبنى النظرة الضيقة لرجال الأعمال. يرفض هؤلاء أن تحدد الحكومة حدا أدنى للأجر لأنه يرفع من تكلفة تشغيل عمال جدد، وهو ما سيحد من قدرتهم على تعيين عمال جدد. ويخضع لهم رجال الحكومة ابتزازا أو اقتناعا بأفكار اقتصادية بالية، ولكنها لهم كدين آبائهم. وهم فى سبيل ذلك، لا يهمهم إن دفعوا ثمن التخلف عن أداء التزاماتهم الدولية. فقد التزمت مصر أمام البنك الدولى فى بداية الألفية الثالثة بتحقيق أهداف الألفية والتى من شأنها تخفيض عدد فقراء العالم إلى النصف، وذلك عن طريق تطبيق معايير معينة فى الصحة والتعليم والتشغيل وخلافه. فما أبعدها اليوم عن تحقيق جل تلك الأهداف التى يجهلها محمود الذى أعرفه ويتجاهلها محمود الذى يعرفه الجميع.

من تلك المعايير «توفير فرصة عمل لائقة»، وهى الوسيلة الوحيدة الثابتة للخروج بشكل نهائى من مصيدة الفقر كما تقول منظمة العمل الدولية. ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق فرض حد أدنى للأجر لضمان أن تكون الوظائف المتاحة «لائقة». وتواجه مصر الآن جراء تجاهلها لتلك المعايير تهديدا بشطب اسمها من قائمة «الدول الرائدة فى تشغيل الشباب»، وهى رابطة من بضع وعشرين دولة تحت لواء شبكة تشغيل الشباب وهو تحالف بين البنك الدولى ومنظمة العمل الدولية والأمم المتحدة وذلك لعدم التزامها بمعايير تشغيل الشباب فى فرص عمل لائقة. وهو تهديد مباشر يندد بسياسات محمود المعروف.

إذ تبين أن سياسات «النمو ومن بعده الطوفان» أدت إلى تفاقم البطالة خلال السنوات 2000-2001 إلى 2007-2008. وحتى لا يقف محمود الذى يعرفه الجميع معترضا على هذه الجملة، على أن أقدم بعض التوضيح: فالبيانات التى تصدر عن وزارة التنمية الاقتصادية كل ربع سنة توضح انخفاض معدلات البطالة حتى ما قبل الربع الأخير من 2008. إلا أننا لا نستطيع تجاهل بيانات أخرى عن نفس الوزارة تقول العكس (ولعل الاختلاف ناتج عن اختلاف طريقة الحساب، ولكنها السياسة ــ لعنها الله ــ تعمل على انتقاء بيانات دون أخرى). إذن، برغم النمو المرتفع، نستطيع أن نقول إن نسبة العاطلين قد زادت خلال السنوات السبع، من 8،4% إلى 9،8% وذلك بحسب دراسة حكومية، صدرت عن وزارة القوى العاملة والتى أعلنت على أساسها «الخطة القومية لتشغيل الشباب» فى 18 مايو الماضى، وتلك الأرقام الواردة فى الدراسة منسوبة لبيانات وزارة التنمية الاقتصادية، يعنى بيانات حكومية مخفية. ولكن لا يخافن أحد من الفضيحة. فمحمود مازال قابعا فى بيته يندب حظه ولم يسمع عنها.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات