إقامة إسرائيل سبّة فى جبين الغرب - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الأربعاء 17 أبريل 2024 12:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إقامة إسرائيل سبّة فى جبين الغرب

نشر فى : الثلاثاء 7 يوليه 2009 - 9:36 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 يوليه 2009 - 9:36 م

 فى مقال حديث للأخ الدكتور يحيى الجمل، أشار لالتحاقه فى مستهل حياته العملية بمكتب مزراحى باشا (وهو يهودى) فسمع منه تخوفا من أن قيام دولة تدعى إسرائيل سيكون مصدر قلاقل وتوترات فى المنطقة، وقراره هو وعائلته بتحاشى زيارتها. وتذكرت لقائى مع مزراحى باشا فى 1945 الذى كان محاميا لكل من الخاصة الملكية والسفارة الأمريكية. وكانت المناسبة أن والدى ــ رحمه الله ــ قرر بيع مكتبته المكونة من أكثر من خمسة آلاف كتاب فى الفقه والحديث والتفسير والتاريخ والنحو والصرف والمعاجم اللغوية، منها ما يزيد على ألف وثلاثمائة مخطوطة، نظرا لأن صحته لم تعد تساعده على تصفح كتب كانت مرجعه أيام كان أستاذا للغة فى الأزهر الشريف. فقد سلكت طريقا آخر فى الحياة ولم يكن هناك من يستفيد منها، فآثر أن ينتفع بها من يحرص على اقتنائها وانتفع أنا من استثمار ثمنها. ورفضت دار الكتب أن تقتنيها مفضلة انتقاء الثمين منها وترك الباقى أحار فيمن يشتريه. وتكالب سماسرة الكتب الذين طالما زودوه بالنادر من الكتب ليبخسوها قيمتها، إلى أن تفحصها المستر كالفرلى وكان أستاذا مستشرقا فى الجامعة الأمريكية، فعاد بعد فترة بتفويض من مكتبة الكونجرس بشرائها، وكان مزراحى هو الذى أعد عقد البيع. وسعدت عندما زرتها فى 1984 فوجدتها فى خير حال، لتظل علما ينتفع به. ومؤخرا أشارت دراسة أجراها الباحث الجزائرى عبدالله بوفولة إلى أن المسئولين عن تلك المكتبة مازالوا يفحصون محتوياتها!

وعدت بالذاكرة لأيام طفولتى وما أخبرتنى عنها والدتى من أن الوالد كان يسمح بزيارة أسرة يهودية من جيراننا، وأنها كثيرا ما كانت تعهد لابنتهم راشيل بملاحظتى عندما تكون منشغلة عنى بأمور أخرى. وتذكرت أيام كنت أقصد شارع الموسكى لشراء بعض الحاجيات فى الأربعينيات، فأمر عندما اقترب من سيدنا الحسين على حارة اليهود حيث كان اليهود يوفرون لأبناء الأقاليم احتياجاتهم بأسعار زهيدة، يستولون بها على ما تبقى من دخل أفلت من أيدى المرابى، وكان عادة يهوديا أيضا. كان اندماج اليهود فى مصر طبيعيا فى مجتمع مسالم، لم يمنع من التندر ببخلهم وهو ما وفر مادة لبعض الأفلام، مثلما تتندر بفكاهات الصعايدة. ولم يكن تطبيعا كما يحلو للبعض تسميته ترويجا منهم لتطبيع عبر حدود رسمتها أقذر حروب شهدتها دول المشرق العربى.

ثم أمضى إلى بريطانيا فى الخمسينيات لأستقر فى مدينة ليدز فى الشمال فأكتشف أن بها أكبر جالية يهودية بعد لندن. ويفيدنى أهالى المدينة أن تلك الجالية جاء جدودها فى ستينيات القرن التاسع عشر من أوروبا، حيث كان يساء معاملتهم، فى طريقهم إلى الولايات المتحدة. ولكنهم قرروا الاستقرار فاشترى أحدهم بيتا فى حى تشابلتون المجاور لحى هيرهيلز الذى كنت أقيم فيه. فإذا بالجارين البريطانيين يأنفان أن يكون جارهما يهوديا، فعرضا منزليهما للبيع. وهكذا توالت عمليات البيع أو بالأصح الفرار إلى أن تحول الحى بأكمله إلى مستعمرة يهودية، أو مستوطنة بلغة اليوم. وقد استفدت من وجودهم بشراء مأكولات تدعى «كوشر» هربا من مأكولات بريطانية محرمة. وعبر لى بعض المهنيين عن سخطهم عليهم، لمحاربتهم إياهم فى أرزاقهم بقبول أجور أقل. وعندئذ أدركت لماذا رحبوا بقيام دولة لهم تخلصهم منهم. وعند قيامى بالتدريس فى معهد التنمية والتخطيط الأفريقى فى داكار فى بداية الستينيات، كان من الزملاء أستاذ كبير من أكسفورد يدعى جون مارز، وهو يهودى نمساوى تخفى فى زى جنرال ألمانى ليفر من قبضة النازيين، وقد أعلن فى اجتماع رسمى أنه لا يريد أن يسود فى المعهد ما يجرى فى بريطانيا من استبداد فكرى. ومن يعيش حرية الفكر العلمى فى جامعات بريطانيا، يدرك أن لعنة كره اليهود قد لحقته هناك.

وحينما ألقى الرئيس أوباما خطابه من القاهرة قال: «تعرض اليهود فى مختلف بقاع العالم على مر القرون للاضطهاد. وأفضت معاداة السامية فى أوروبا إلى محرقة (هولوكوست) لم يسبق لها مثيل. وسوف أقوم غدا بزيارة بوخنفالد التى كانت جزءا من شبكة معسكرات قام الرايخ الثالث فيها باسترقاق اليهود وتعذيبهم ورميهم بالرصاص وخنقهم بالغاز حتى الموت. لقد قتل ستة ملايين يهودى، أى ما يفوق إجمالى السكان اليهود فى إسرائيل اليوم. إن إنكار تلك الحقيقة لا يقوم على أساس وينم عن الجهل والكراهية. إن تهديد إسرائيل بالتدمير أو تكرار الصورة النمطية الحقيرة عن اليهود هو أمر بالغ الخطأ ولا يؤدى إلا إلى إعادة تلك الذكريات الأليمة فى أذهان الإسرائيليين، وهو فى نفس الوقت يحول دون تحقيق السلام الذى يستحقه سكان هذه المنطقة».

وأول مغالطة فى تلك العبارة الادعاء بتعرض اليهود للاضطهاد فى مختلف بقاع العالم. قد ينطبق هذا على أوروبا لأسباب مادية أوضحها شكسبير فى روايته «تاجر البندقية». أما فى الشرق وخاصة فى العالم الإسلامى حيث لا يحبون المال حبا جما، بل تعلو عندهم القيم الروحية التى ترفع من شأن كرامة الإنسان، فلم يجر اضطهاد اليهود، ويكفى ما ألمحت إليه سابقا من أمنهم ومكانتهم فى مصر. المغالطة الثانية هى أن معاداة السامية فى أوروبا أفضت لمحرقة لم يسبق لها مثيل.. فالمعاداة شىء أما المحرقة فكانت إحدى جرائم النازى الذين أشعلوا حربا نشرت خرابا ودمارا فى العالم بحرب سقط فيها خمسون مليون قتلى، وهو أمر تبرأ منه العالم أجمع. المغالطة الأكبر هى الادعاء بأن عدد الضحايا كان ستة ملايين، والشواهد كثيرة على المبالغة فيه اصطنعه الصهاينة لإرهاب كل من يعارضهم. المغالطة الرابعة هى الموازاة بين تهديد إسرائيل بالتدمير وتكرار الصورة النمطية الحقيرة عن اليهود. فاليهود موجودون، قامت دولة إسرائيل أم لم تقم. أما قيام عصابات بقتل شعب آمن واغتصاب أرضه وتشريد شعبه واغتصاب موارده بما فيها مياهه ومياه جيرانه، فإنه أشد فتكا من ذكريات أليمة يحرص سيادته على ألا تعاود أذهان الإسرائيليين، وهو أمر يعيشه أصحاب الأرض المغتصبة إذا نجوا من الموت بأسلحة تحرص أمريكا على أن تتفوق فيها عن العرب أجمعين. وهل يدخل فى تهدئة النفوس التعهد بتزويدهم بطائرات إف-35 بعد تحسينها؟

والسؤال هو لماذا تصدر الدول الغربية قوانين تجرم معاداة السامية وتحشر فيها أرقام ضحايا الهولوكوست؟ هل ما زال فى الغرب عداء لليهود وهو الذى يعتبر الإساءة للإسلام رأيا يجب احترام حريته؟ ولماذا لم توفر الأمن لرعاياها من اليهود فلا يضطرون للبحث عن دولة تخصهم؟ هل هى دولة للتفرغ إلى عبادة الله على النحو الذى يرضيهم، أم هى ملاذ يلجأ إليه كل من يساء معاملته، لترجيح الإساءة؟ أم هى قوة عظمى تملك من أدوات التدمير ما يرهب كل من تسول له نفسه المساس بشعرة صهيونية، وهناك دائما الأخ الأكبر الذى يؤكد سيادته أن أواصر الروابط بينهما تستند إلى روابط ثقافية وتاريخية لا تقبل الانفصام. إن القول بأن رغبة اليهود فى وجود وطن خاص لهم هى رغبة متأصلة فى تاريخ مأساوى لا يمكن لأحد نفيه، لا يعنى أن يتم ذلك على حساب صنع مستقبل مأساوى لشعب كان كل أمله التخلص من استعمار غربى. إن مؤسستهم العسكرية التى تملأ الدنيا ضجيجا بتهديد أمن المدنيين شنت حربا سافرة على لبنان لمجرد أسر جنديين، ودمرت غزة لتخليص جندى، وخسرت الحربين. إن إسرائيل إذا أريد لها أن تبقى يجب أن يعلن العالم أنها دولة محايدة كسويسرا، ويحمى حيادها، فينزع سلاحها لكى تتفرغ للتعمير لا التدمير.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات