إناء الأفكار - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إناء الأفكار

نشر فى : الأربعاء 7 سبتمبر 2022 - 7:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 7 سبتمبر 2022 - 7:35 م
يزدحم أحيانا العقل بأفكار لا رابط بينها، فيقفز مثلا من تفصيل فى العمل يأخذ بعدا مضاعفا إلى التساؤل إن كنت أغلقت الباب فى البيت بشكل محكم، ثم أتذكر كلمات من أغنية فأبحث عن اللحن، وأعود إلى موضوع ناقشته مع أخى ولم يأخذ حقه من الوقت. أقرر ما سأطبخه اليوم، فأبدأ بتعداد المكونات وأكتب فى عقلى مقالى الأسبوعى بينما أتذكر أننى لم أشترِ لابنتى أقلام الرصاص لكنى أعرف أن فى درج المطبخ قلمين يجب أن أتذكر أن أعطيها أحدهما. لماذا لم أرد على سؤال صديقة وصلنى عبر وسيلة تواصل اجتماعى وبما أننى قرأت السؤال فسوف أبدو وكأننى لم أعرها ما يكفى من الاهتمام. ما هو ردى أصلا؟ لم أقدم واجب العزاء فى والد زميل يجب أن أطلب موعدا لزيارتهم. ابنى الأوسط قد يحتاج استشارة طبية وها نحن فى آخر الأسبوع ولن تستطيع مساعدة الطبيب أن تدخلنى فى برنامجه. أريد أن أجرب وصفة حلويات جديدة، هل لدى ما يكفى من الزبدة فى البيت؟ أنا أخاف من المرض وقد زرعت أزمة صحية مررت بها العام الماضى بذور من الشك والخوف فى قلبى أحاول أن أسيطر عليها. ما أخبار الشام؟ لا أحب ما أقرأ ربما من الأفضل أن أهاتف من أحب ممن ما زالوا يعيشون فى دمشق. هل سأموت قريبا؟ ما هذه الفكرة الآن؟ لا تخفها فكرة أن الموت قد يخطفنا جميعا فى أى لحظة. أعود إلى المطبخ: أحب الكنافة الخشنة أكثر من الناعمة، أحب قرمشة العجين، أحب صوت العجين حين تطحنه الأسنان. أطحن أفكارى السوداء وأغرقها بشراب اللوز المركز.
• • •
ما علاقة هذه المواضيع بعضها ببعض؟ قد يبدو للوهلة الأولى أننى أصف ما يجرى فى رءوس عدة، لكنى متأكدة من تعرف القارئ والقارئة على هذه اللحظات، خصوصا حين تدق فى العقل أثناء الليل فتتضخم كل فكرة لتملأ الغرفة حتى ترتطم بسقفها. الليل غدار كأن تنخزك ذكرى فى عز النوم فيدخل العقل فى حالة تأهب سرعان ما يتبعه الجسد. ماذا الآن؟ هل على أن أحل موضوع العزاء ووصفة الكنافة الآن فى منتصف الليل وأثناء سباق العقل مع المنطق، فى محاولة للتخلص من خوفى من الموت؟ هل عملى مستقر؟ أى مستقبل ينتظر أولادى؟ ماذا لو لم أعد قادرة على التقدم فى العمل؟ لماذا تركنا القاهرة؟ ها أنا أعود فى شرفة بيتنا هناك وأرانى فى عقدى السابع أراقب الشارع ومن فيه. هل تقاعدت؟ ربما. ما كل هذا الضجر، لماذا لم أحضر سنوات التقاعد ولماذا لم أغير مهنتى بحيث أبقى نفسى مشغولة؟ هل ستمرض ابنتى كما مرضت؟ هل هناك عامل جينى رغم تأكيد الطبيب لى عكس ذلك؟
• • •
فى سلسلة «هارى بوتر»، وهى كتب لليافعين واليافعات عن تلميذ فى مدرسة للسحر، وجدت الحل! فى مكتب مدير المدرسة، الساحر الأكبر والحكيم هناك ما يسمى بـ«إناء التفكير». هو إناء يفرغ فيه مدير المدرسة كل يوم أفكاره ليتمكن من النظر إليها وهى خارج عقله فتبدو أوضح وأسهل قبل أن يعيدها إلى رأسه. مرة فى اليوم إذا من الممكن استخدام أنبوب يصل بين الدماغ والإناء لسحب الأفكار من العقل وضخها ريثما تهدأ بعيدا عن الازدحام وهى محشورة فى العقل. تخيلوا معى عملية فى درس الكيمياء حين نضيف عدة مواد فى إناء مسطح قطره واسع وننظر إلى الأشكال لنحاول أن نفهم كيف تتفاعل المواد، أى الأفكار، ثم نخرج بنتائج ومواقف أوضح وربما بعض من راحة البال.
• • •
يزعم ممارسو التأمل، وأظنهم على حق، أن تهدئة العقل من أنجح سبل تهدئة النفس. أما أنا فأجد من الصعب جدا أن أضع مخاوفى جانبا أو أن أتغلب عليها، فأغطيها بألوان وروائح من المطبخ وأضيف عليها أصوات أولادى أو حتى أولاد الجيران مع موسيقى تصلنى من بيت جار لديه أدوات صوت أشبه بتلك التى رأيتها فى ستوديو تصوير برنامج تلفزيونى. كثيرا ما ينصح بمحاولة العودة إلى مكان آمن فى العقل: هو مكان شعرت فيه بالأمان من قبل وعلى أن أتخيل نفسى فيه الآن، فى منتصف ليل مدينة ثانية أشعر أن سقف غرفتى فيها يطبق على صدرى.
• • •
فى تلك المواقف أعود إلى مكانين فى بيت بغض النظر عن البلد: المطبخ وكرسى أمام الشباك. فى المطبخ ثلاث حيوات فى واحدة، جدتى وأمى وأنا وأصواتنا جميعنا تتداخل فوق رائحة الثوم والكزبرة. وفى الكرسى ألعب مع الشمس التى أراها من خلف الشباك أو بالأحرى أراقب أثرها على الشارع، من اختلاف وهجها إلى تغير حركة المارة على مدة ساعات. فهم كانوا فى أقصى طاقتهم خلال النهار حين انشغلت مع الأم والجدة فى المطبخ، وها قد بدأت حركاتهم بالتباطؤ مع دخول اليوم فى نصفه الثانى وصار من فى الشارع يتوقف للحديث والسلام إذ أنهوا أعمالهم وعادت أنفاسهم إليهم بعد لهاث يوم عمل.
•••
أمسك الأفكار بملقط خاص لأخرجها من الإناء وأعيدها إلى عقلى. نجحت بفك بعضها وفشلت بتهدئة بعضها الآخر. وتركت بعضها فى الإناء سوف أدفنه فى تراب حديقة قريبة.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات