أحلامٌ مُنصِفةٌ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلامٌ مُنصِفةٌ

نشر فى : الجمعة 7 ديسمبر 2018 - 10:30 م | آخر تحديث : الجمعة 7 ديسمبر 2018 - 10:30 م

كان الليلُ طويلًا، والصمتُ عميقًا، والناسُ في براءة الأطفال نيامٌ؛ لا يُسمَع في الأجواء صوتٌ، ولا يصدر عن الأفواهِ همسٌ، ولا تحفُّ أوراقُ الشجر ببعضِها بعضٍ، ولا يتحرك في فضائِها الهواء. الكلُّ ينعم بالهدوء والاكتمال؛ الرؤوسُ على الوسائد مَحنية، والأكتافُ مَرخيّة، والأجنابُ مُستكينةٌ في مضاجِعها، وادعةٌ في مَراقدها، وكأنها لن تقوم مِن طول الجمود والثبات.
***

على المقعد المُتهالك جالسة، تكافح الإرهاقَ وتنظر في أوراقها؛ تتطلع بين السطور مَليًّا، تبحث الاتهامَ وتدرس الكلام. ورقةُ تلو أخرى تعيد قراءتها، تدقِّق في فقراتها، ولا تلبث أن تضيف خطوطًا واستفهامات، تصنع بالقلم دوائر وترسم مُستطيلات، وتكتب في الهوامش ما يستجد مِن ملحوظات، ثم تعاود المُطالعة بلا راحة، ولا فاصل تستجمع فيه الشتات.
***

في عملها؛ لم تكُن مُنصفة أبدًا بكسولة أو مُتخاذلة، لم تتقاعس يومًا عن تقديم المساعدة، ولا نكصت عن تلبية نداء. تتحرك فور وصول استغاثة، تحمل بطاقتها، وتقفز في أقرب ميكروباص بأسرع ما يمكنها، تقصد المكانَ المَنشود بلا تردد؛ حيث تباشر في التوّ مُهمتَها. تسعى لمعرفة التفاصيل، وكشف ما خفي من مُلابسات، مُتسلّحة بما تملِك مِن صبر، وما تتمتع به مِن سِعة صدر؛ لا تفتر عزيمتُها مع المُمطالة، ولا يردعها عن مُساندة المَظاليم تهديدٌ أو زجر.
***

تمكَّنت خلال مَسيرتها المِهنية، ومنذ عملت بمجال دراستِها الحقوقية، مِن تحرير عشراتِ المأسورين، وإعادة حقوقِ آخرين، لكنها لم تكُن راضية تمام الرضاء عما تنجز في أيامها؛ فأضعاف هذا العدد، لا تزال قيد المُعاناة، لا مَخرج يلوح في الأفقِ، ولا أطواق تُلقى للنجاة، وهذه الأوراق بين يديها؛ قد لا يستقيم مَسارها هي الأخرى بما يريح القلبَ، فمثلها مثل ملفاتٍ عديدة؛ تعقَّدت بصاحبها الدروبُ، وتشعَّبت المُنحنياتُ، وتعاظمت الخُطوب.
***
كانت مُنصِفة كعادتها، تجدّ وتجتهد بكامل طاقتِها، تجلبُ المَراجع مِن رفوفها، وترصُّ كُتُبَ القوانين والتفاسير والفقه أمامها، لا تتوانى عن البحث والتنقيب، تستخرج الأحشاء وتتتبَّع العلامات، حتى تصل بعزم متين إلى هدفها؛ لكنها هذه المرة، لم تقع على ما يطفئ الظمأ؛ فالأحوال في الآونة الأخيرة تبدَّلت، غامت الأجواءُ، وضاقت الطريق شيئًا فشيء وأصابها الانسدادُ، ولم يعد الجدُّ والاجتهاد؛ سبيليّ الوصول إلى عدالةٍ مُستحقةٍ أو إنصاف.
***
كانت تجابه رزمةً مِن القواعد المُستحدَثة، تحاصر أفكارها حصارًا تامًا مُحكمًا، لا تترك مساحة للحركة، ولا تدع مجالًا للمناورة أو المُداولة. تحاول تطبيق ما تعلَّمَت؛ حِفظًا لكرامة البشر وصَونًا لآدمية المُتهم، لكنها تصطدم بحجرٍ تلو حجر، فتتجمَّد في مكانِها، وتبتلع صيحة انتصار كادت تغادر حلقَها، تؤجِّل فرحتها وتعاود دراسة الموقف، مُمنية نفسها بقرب الفرج وببشائر الإفراج.
***

تاهت عيناها وسط المستندات المَصفوفة؛ ليست التُهمة ثابتةً، ولا القرائنُ واضحةً، ثمَّة فقرةٌ مُقتطَعةٌ وعبارةٌ مَبتورةٌ، ونقاطٌ كثيرة مُتجاورة؛ تفصح عما لا تحمله الكلمات. ثمَّة شخصٌ يقبع بين الجدران؛ لا يتنفس هواءً كالهواء، ولا يجد حاجته مِن الدواء، فيما هي الأخرى تقبع بين جدرانها، عاجزة عن استيفاءِ أسبابها، وعن رتق ثقوبِ الثياب.
***
أسندت جبهتَها على كفِّها، وارتشفَت مِن كوب الشاي الذي فقد حرارته مع إهمالِها، بينما الوقت يمُر بطيئًا بلا حساب. بعد طول مُقاومةٍ، أعلنت جفونُها الاستسلامَ، ومال رأسُها وانزلق؛ ليزيح بعض ما لم تعد منه فائدة، ولا حام في تخومه الرجاء.
***
على الأرض استقرت عدةُ أوراق، فيها خطوطٌ مُتعرجةٌ حمراءٌ، وقد أحاط واحد مِنها بعنوان: "الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان"، بينما في الركن العلويّ الأيسر، جُمل مُقتضَبة ومُفردات؛ خطَّتها يدٌ مغلولة تروم الفكاكَ، وفي نهاية النصِّ المَكتوب، طلَّت بحروفٍ عريضةٍ كلمة "أحلام". أحلام مُنصِفة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات