منح الدرجات العلمية.. وأزمة النزاهة - عماد عبداللطيف - بوابة الشروق
الأحد 8 ديسمبر 2024 7:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

منح الدرجات العلمية.. وأزمة النزاهة

نشر فى : الخميس 9 فبراير 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الخميس 9 فبراير 2023 - 8:15 م

بعض التصريحات تكتسب أهميتها من تعبيرها عن حقائق معروفة. فالكثير من الحقائق الساطعة فى مجتمعاتنا، نادرًا ما تُقال. لكن معرض القاهرة الدولى للكتاب شهد الأسبوع الماضى حالة اعتراف استثنائية بحقيقة معروفة. فقد اعترف أستاذ مشهور بجامعة مصرية، نقلا عن صحيفة الأهرام، أن «الكثير من الرسائل التى أجيزها، أعتقد أنها لا تصلح، فأنا مجامل». جاء حديث الأستاذ أثناء ندوة خُصصت له فى معرض الكتاب، وفى سياق رده على سؤال أحد الحضور عن المجاملات فى منح الدرجات الجامعية. حفَّز هذا التصريح نقاشات موسَّعة على صفحات التواصل الاجتماعى وبعض الصحف خلال الأيام القليلة الماضية. يتخذ هذا المقال من تصريح الأستاذ منطلقًا لتقديم ملاحظات على أزمة النزاهة فى الجامعة.
مفارقة الاعتراف والمناسبة
جاء تصريح الأستاذ بجريمة منح درجات علمية لرسائل ضعيفة مجاملة للطلاب، أثناء ندوة مُعدَّة لتكريم الأستاذ. لم يقترن التصريح بتعبيره عن الندم، أو شعوره بالأسف من فعل ذلك. بل ذكر الأستاذ إنه صرح من قَبل بالأمر نفسه فى معرض تلقيه لجائزة عربية كبرى. ولا يملك القارئ أو القارئة إلا أن يندهش من المفارقة بين التصريح والمناسبة فى الحالتين معًا. فمنح درجات علمية لرسائل لا تستحق جريمة فعلية، ينتهك فيها الأستاذ أخلاقيات المهنة، وثقة المؤسسة التى ينتمى إليها، وضميره الشخصى والعلمى؟. ولو حدث مثل هذا الاعتراف فى جامعة غربية، على سبيل المثال، لأوقفت الأستاذ عن العمل، وحققت معه بشأن ما نُسب إليه فإن كان صادقًا، حاسبته بتهمة التدليس وافتقاد النزاهة والإساءة إلى سمعة الجامعة بمنح درجاتها العلمية لغير الطلاب المستحقين، وإن كان كاذبًا، حاسبته بتهمة التشهير بالطلاب الذين أشرفَ عليهم أو ناقشَهم، ومنحَهم درجة مستحقة، ثم ادعى أنهم لا يستحقون.
إن اعتراف الأستاذ بجريمة منح الدرجات العلمية لغير مستحقيها يتناقض مع سياق تكريمه، وهذا سبب المفارقة بين التصريح والمناسبة. فالطبيعى أن المؤسسات تُكرِّم العلماء الذين يتمتعون بالنزاهة والأخلاق والمهنية، لكن الأستاذ يعترف صراحة أنه يفتقد إلى هذه الصفات الثلاث، فى سياق تكريمه ذاته! فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة التى تبدو غريبة؟!
يكمن تفسير مفارقة الاعتراف والمناسبة فى أزمة النزاهة المتفشية فى جامعاتنا. فالأستاذ الذى يعترف أنه يدلس، ويخون الأمانة الموكلة إليه، لا يجد فى ذكر ذلك حرجًا؛ لأنه ليس وحده من يفعل هذا! إنه يدرك أنه يعبر عن حقائق معروفة، وممارسات شائعة. فجميع المشتغلين بالعمل الجامعى يعرفون أن هناك أساتذة بلا ضمير، ولا أخلاق مهنية، يمنحون الدرجات العلمية لغير مستحقيها، لسبب أو آخر. ويبدو أن الأستاذ قد خلط بين مبدَأى الشيوع والصواب؛ فظن أن شيوع الجريمة، لا يجعلها جريمة. فاعترف على الملأ بها غير آبه للنتائج التى يمكن أن تترتب عليها.
شيوع الجريمة لا ينفى أنها جريمة!
تعانى جامعاتنا من انتهاكات، لم تعُد تُدرَك بوصفها جرائم، بسبب شيوعها. وليس منح الدرجات العلمية لغير مستحقيها إلا جزءًا منها. فإكراه الطلاب على شراء كتب الأساتذة بواسطة ربط شراء الكتاب بدرجة الطالب جريمة، وتغيب الأساتذة عن محاضراتهم بلا سبب أو عذر معظم الفصل الدراسى جريمة، وسرقة أبحاث الآخرين ونسبتها للذات جريمة، والتحرش بالطالبات والزميلات جريمة، وتوريث المناصب الجامعية لأبناء الأساتذة غير المستحقين جريمة، وتحول الأستاذ إلى عين على زملائه يسجل لهم قولهم وفعلهم جريمة... إلخ. وبسبب الإقصاء الممنهج لأدوات الضبط المؤسسى، والقبول العرفى الواسع للانتهاكات، شاعت هذه الجرائم وانتشرت. وأصبح الاستثناء هو توقيع جزاء عادل على مرتكبيها، والأصل هو التهاون معها، بل فى بعض الأحيان التشجيع عليها. ووصل الأمر حد أن يجاهر الأساتذة بارتكاب هذه الجرائم علنًا، حتى فى سياقات تكريمهم!
يكاد يحار المرء فى تفسير هذا الغياب لآليات الضبط الأخلاقى والمهنى فى جامعاتنا. فهل أدى تآكل الأخلاق المجتمعية عمومًا إلى تآكل الأخلاق المهنية الجامعية؟ وهل أدى غياب الضمير المهنى إلى إضفاء مشروعية مع جرائم أخلاقية ومهنية جليَّة؟ هل تغيرت الموازين الأخلاقية نفسها، فأصبح التخلى عن الضوابط الأكاديمية الصارمة «شطارة»، ومقياس «تعايش» مع الوسط العام، وعلامة «مرونة»؟ هل أدى تاريخ طويل من عدم استقلال الجامعة إلى شعور أساتذة الجامعة النزهاء باللامبالاة، واللاجدوى، فانزووا تاركين الساحة لتركض فيها قلة غير نزيهة؟ هل أدرك الأساتذة أن منح التقدير والمناصب والمكانة أصبح معزولا عن الأخلاقيات المهنية، بل مرتبطًا بغيابها فى بعض الأحيان؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى للتعايش مع الفساد تحتاج إلى بحث علمى متعمق لنفهمها ونعيها؟
مهما تكن الأسباب، فإن أزمة النزاهة الجامعية عميقة وخطيرة. وليس أدل على ذلك من التعليقات التى كتبها أساتذة آخرون على التصريح السابق. كان المتوقع أن تتحد أصوات الأساتذة للتعبير عن رفض انتهاكات النزاهة العلمية، والدعوة إلى محاسبة مرتكبيها، والتبرؤ منها ومنهم معًا. واتخاذ هذه المناسبة فرصة لتشكيل موقف جماعى مناهض لها. لكن أصواتًا غير قليلة، توجهت على العكس من ذلك إلى امتداح مرتكبى هذه الجرائم إما لأن لديهم شجاعة الاعتراف بها، أو لأنهم لا يفعلون إلا ما يفعله الآخرون. وهذا دليل آخر على عمق الأزمة وتفرعها. ويضاف إلى ذلك أن قليلا ممن كتبوا عن الأمر توقفوا عند تبعات مثل هذه الجرائم. فتخريج أجيال من حاملى شهادات الدكتوراه والماجستير ممن لا يمتلكون أدوات البحث العلمى، ولم يُقدموا عملا علميًا جديرًا بهذه الشهادات سبب أساسى من أسباب تدهور جامعاتنا. فبعض الطلاب والطالبات ممن حصلوا على درجة علمية «مجاملة« من أستاذهم، أصبحوا أنفسهم أساتذة، يحكِّمون المعايير الفاسدة نفسها؛ ليُعاد إنتاج غياب النزاهة جيلا بعد جيل.
أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب

عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب
التعليقات