يلاحظ المتتبع لخطابات الحروب حرص جيوش الاحتلال على التلاعب بنتائج المواجهات العسكرية مع المقاومة المسلحة التى تهدف إلى تحرير الأوطان. يتم هذه التلاعب عادة عن طريق ثلاث عمليات كبرى؛ الأولى إخفاء الخسائر، وعدم الحديث عنها، أو نفى وقوعها، ووصف عمليات المقاومة بأنها فاشلة. فإن لم يستطع الاحتلال فعل ذلك بسبب صعوبة الصمت أو الإخفاء، يلجأ إلى العملية الثانية وهى التلاعب بأرقام وأوصاف الخسائر بهدف التقليل منها، فإن لم يستطع يلجأ إلى العملية الثالثة، وهى تقليل الأثر المترتب على الخسائر، وإظهار أنها غير حاسمة.
• • •
هناك أدلة قاطعة على تبنى سياسة التلاعب بنتائج المواجهات بين المقاومة الشعبية المصرية وقوات الاحتلال الفرنسى فيما بين 1798 و1801، وبين المقاومة الشعبية الجزائرية والاحتلال الفرنسى فيما بين 1954-1962. وهناك أمثلة أخرى عدَّة من أرجاء العالم. لكن ربما يكون الاحتلال الصهـيونى هو النموذج الأكثر تمثيلًا لهذه الظاهرة. فالتلاعب فى نتائج المواجهات مع المقاومة الشعبية ثابت من ثوابت خطاب الاحتلال الصهيونى. وخلال العام الماضى وضحت هذه السياسة بجلاء، فالاحتلال لم يكن يعلن عن نتائج خسائره على يد المقاومة إلا بعد أن تنشر المقاومة تسجيلات لها، وكان يعمد إلى إخفاء أرقام الجنود القتلى والمصابين والآليات المدمرة والمعطوبة، مما كان يدفع بالمقاومة إلى تكذيب تصريحات العدو، والتأكيد على أن الأرقام التى يذكرها الاحتلال أقل بكثير جدًا من الواقع والحقيقة.
يؤدى إخفاء الحقيقة إلى تقويض المصداقية، والنيل من ثقة المتلقين. ويكون تأثير فقد المصداقية على المدى الطويل باهظًا إذا وُجِدت ذاكرة جماعية نشطة، وإذا أُثبِتَت عمليات التلاعب على نطاق شامل. والسؤال الذى يطرح نفسه هو لماذا يلجأ الاحتلال إلى سياسة إخفاء الخسائر، والتلاعب بحقائقها، على الرغم من الثمن الباهظ الذى يدفعه بسبب ذلك؛ أعنى افتقاد المصداقية، وعدم الثقة بخطابه؟
• • •
هناك ثلاثة أهداف كبرى لتلاعب جيوش الاحتلال بنتائج مواجهاتها مع القوى المقاومة. الأول هو التلاعب النفسى بالمقاومة. فإخفاء الخسائر التى يتكبدها الاحتلال، قد يجعل المقاومة تتشكك فى جدوى العمليات التى تقوم بها. وقد يؤدى هذا إلى التوقف عن هذه العمليات أو تغييرها لصالح ما قد يُظن أنه أكثر تأثيرًا. ولعل إدراك أهمية إثبات أثر المقاومة هو ما يجعلها تختار تصوير بعض وقائع المعارك، ونشر جزء منها، رغم ما يترتب على ذلك من مخاطر عسكرية. كما أن التلاعب النفسى بالمقاومة يفشل بسبب الصورة النمطية للعدو الكاذب، التى تتكون نتيجة فضح المقاومة المتواصل لأكاذيب الاحتلال. وهو ما يقدم حماية مسبقة من الآثار النفسية لهذا التلاعب على المدى البعيد. لذا فإن هذا الهدف -على أهميته- صعب التحقق.
• • •
الهدف الثانى هو حفاظ الاحتلال على قوة الردع فى محيطه الاستراتيجى. لقد سعى الاحتلال الصهـيونى خلال العقود الماضية إلى بناء صورة متخيلة لقوة عتاده، وشجاعة جنوده، وكفاءة خططه واستراتيجياته؛ بهدف ردع القوى الأخرى عن مقاومة هيمنته، أو تحدى مصالحه، أو مصالح القوى التى أُنشئ ليخدمها، لا سيما أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها.
استهدف بناء هذه الصورة إقناع القوى الاستعمارية أن الاحتلال قادر على القيام بمهمته التى أنشأوه لأجلها. إن إخفاء خسائر الاحتلال أمام المقاومة الشعبية الفقيرة فى مواردها وتسليحها وإمكانياتها أداة أساسية من أدوات الحفاظ على الصورة الأسطورية لقوته. فالكشف عن الخسائر الحقيقية يقوَّض هذه الأسطورة، ويكشف حقيقتها. وقد أظهر العام الأخير بجلاء أن هذه الصورة مبنية على أوهام خطابية أكثر منها حقائق على الأرض، وأن القوة الحقيقية للاحتلال تعتمد بشكل أساسى على دعم الغرب الاستعمارى له بالجنود والسلاح والخطط والمعلومات والتكنولوجيا والمال وكل شىء تقريبًا. وعلى الرغم من ذلك فإن إخفاء الخسائر يقلل من انكشاف الحقيقة، وبخاصة ما يتعلق بحالة وهن جنود الاحتلال وجبنهم وضعف كفاءتهم فى حالات الالتحام المباشر مع المقاومة. وهو ما قد يؤدى إلى إحراج حقيقى لو أعلن جيش الاحتلال نتائج هذه المواجهات.
• • •
لعل الهدف الثالث هو أكثر أهداف هذا التلاعب بالخسائر أهمية. فالمقاومة والقوى المحيطة لديها مصادرها التى تعرف بها آثار المواجهات على الأرض. ولديها أيضًا خبرة سابقة تثبت ضعف مصداقية العدو، بما يجعلها حذرة فى التعامل مع أرقامه وأوصافه. لذا فإن المستهدف الرئيس بإخفاء الخسائر ليس المقاومة ولا دول الجوار ولا الدول الاستعمارية الداعمة بل جيش الاحتلال والمحتلين أنفسهم.
إن إخفاء خسائر المواجهات شديد الأهمية على ثقة جيش الاحتلال بنفسه، فلو تغلغل الشعور بالمهانة والضعف والجبن فى نفوس الجنود، وتحوَّل من حالة مؤقتة إلى عقيدة راسخة لتسبَّب فى هزيمة الجنود قبل أن يدخلوا أية مواجهة. وهو ما حدث بالفعل فى مواجهات جنود الاحتلال مع المقاومة فى مواقع كثيرة خلال العام الماضى.
علاوة على ذلك، يقوم إخفاء خسائر المواجهات بدور كبير فى الحيلولة دون تفكك الاحتلال نفسه، وليس جيشه فحسب. فالاحتلال قام على توطين ملايين البشر فى الأراضى المحتلة، معظمهم ليست لديهم روابط حقيقية مع البلد المحتل، بل يعيش فيه لأنه يقدم فرصَ حياة أفضل من تلك التى كان يعيشها فى بلده الأصلى. فالمهاجرون الذين جاءوا من أرجاء العالم ليعيشوا فى المستوطنات الصهـيونية هاجروا إلى «أرض الثروات»، لا «أرض الميعاد». فأى شخص عاقل لا يمكن أن يقتنع بحكايات ملفقة وقصص مزعومة عن خرافة العودة إلى أرض تركها الأجداد قبل آلاف السنين.
لقد أدرك المهاجرون أنهم يقومون بدور محدد فى خدمة الاستعمار الغربى مقابل حصة من ثروات العرب. وحين يتضح لهم أن أرض الثروات أصبحت أرض المقاومة الباسلة، سيفرون هاربين إلى بلدانهم الأصلية، أو أى بلد يجدون فيه فرص حياة أفضل. وهذا ما جرى بالفعل خلال العام الماضى. فقد هاجر عشرات الآلاف دون نية العودة للأراضى المحتلة، وتضاعف عدد الساعين إلى حيازة جنسية ثانية غير جنسية الاحتلال. وتُمثل هذه التغيرات الكابوس الأكبر لمن يديرون الكيان، وللقوى التى تستعمله فى خدمة مصالحها الاستعمارية.
إن الهدف الأول لإخفاء خسائر المواجهات العسكرية بين المقاومة والاحتلال الصهـيـونى هو إخفاء حقيقة أن الأراضى المحتلة أصبحت أقل الأماكن أمنًا للمستوطنين مقارنة بجميع بلدان العالم. لذا من المتوقع أن يواصل الكيان إخفاء خسائره، والادعاء بأن ضربات المقاومة فاشلة ولا تؤثر فيه، فهذا خياره الاستراتيجى لتأجيل الزوال.
أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب