خلال شهر مارس 2025، انسحبت مالى وبوركينا فاسو والنيجر من المنظمة الدولية الفرانكفونية، وغيَّرت دساتيرها للتخلص من اللغة الفرنسية كلغة رسمية، برّرت الدول الثلاث قرارها بأنه خطوة مهمة للتحرر من الاستعمار الفرنسى الوحشى الذى هيمن على دول غرب إفريقيا لعقود، فلكى تضمن الدول الاستعمارية استمرار سيطرتها على ثروات الشعوب الإفريقية المنهوبة، حرصت على الجمع بين احتلال الأرض بالقوة المسلحة، واحتلال العقول والنفوس بالقوى الناعمة، ففرضت لغاتها وثقافتها ودينها قسريًا على الشعوب المحتلة، وعلى الرغم من نجاح معظم الشعوب فى طرد الاستعمار المسلح من أراضيها، فإن التخلص من هيمنته، كما تتجلى فى سيطرة لغته على التعليم، لا يزال غير منجز، ليس فى غرب إفريقيا فحسب، بل فى معظم بلدان العالم العربى أيضًا.
مؤخرًا أثير فى مصر نقاش موسع حول تدريس العلوم باللغة الإنجليزية، حفّزه تشكيل لجنة من أساتذة كليات الطب والطب النفسى فى جامعة الأزهر للشروع فى ترجمة كتب الطب، وقد فُهِم من ذلك أن هذه الترجمة خطوة لتدريس الطب بالعربية، مما أثار جدلًا فى الفضاء العمومى، وانقسم المختصون والمؤثرون ورجال الإعلام الذين شاركوا فيه بين مؤيد ومعارض، وبدا أن الأغلبية تعارض تدريس العلوم، وخاصة علم الطب، باللغة العربية، مما اضطر جامعة الأزهر لاحقًا إلى التنصل من النتيجة النهائية للتعريب وهى تدريس العلوم بالعربية، وقالت إن هذا مجرد مقترح ما يزال قيد الدراسة والنقاش العلمى.
*
هذا المقال يفحص النقاشات التى جرت حول هذا الموضوع، وحجج الطرفين، فالحجج التى جرى تبادلها بين المشاركين فى هذا النقاش جديرة بالبحث، فقد استند الفريق الرافض إلى أن تدريس العلوم بالعربية يقلل من مستوى التعليم المتاح للطلاب، ويعزلهم عن التطورات فى هذا الحقل المعرفى، فمن المعروف أن الإنجليزية هى لغة العلم فى العالم الراهن إلى حد بعيد، وبالتالى فإن تعلم الطلاب بها يتيح لهم التواصل الآنى مع مصادر المعرفة، والحصول على فرص تعلم أفضل، أما الفريق الذى أيد الدعوة ورآها جديرة بأن تُبحث، فقد استند إلى أدلة أخرى تبرهن على أن اللغة العربية قادرة على تعليم العلوم، وهذه حقيقة مؤكدة بالتجارب، فالطب درّسَ بالعربية فى جامعات عربية مرموقة لعقود طويلة دون أن يؤثر ذلك فى مستوى خريجيها، بل على العكس كان خريجوها على مستوى فائق وفقًا لبعض النتائج العلمية، وأثار هذا الفريق أيضًا بعض المسائل المتصلة بأثر التدريس باللغة الأم فى اكتساب المعارف، وفى إمكانية تطويرها فى المستقبل، التى شكلت محورًا لكثير من الدراسات، دار معظمها حول تعلم العلوم باللغة الأم فى الفترات المبكرة من حياة الطفل، ولكن تطرق جانب من هذه الدراسات أيضًا إلى المرحلة الجامعية وما بعد الجامعية.
لم يتوقف النقاش عند هذا الحد، فالحديث عن التدريس بالعربية عادة ما كان موضوعًا لشكل من أشكال الاستقطاب الفكرى، فبعض وجهات النظر سحبت النقاش إلى أرضية ثنائيات مستقرة مثل الحداثة والمعاصرة، والصيغ الأكثر حدية، مثل التقدم والتخلف إلى غير ذلك، وامتد النقاش إلى إمكانيات اللغة العربية بوصفها لغة تعلم وتواصل.
*
لعل أهم ما يلفت الانتباه فى هذا النقاش أن معظم من تحاجوا وتناقشوا بشأن تعليم العلوم الطبيعية والبحتة بالعربية استدعوا تجارب ومقارنات ببلدان أخرى، ولم يستدعوا التاريخ المصرى نفسه الذى يلقى ضوءًا مهمًا حول ما كانت عليه لغة تعليم الطب فى مصر وما آلت إليه، لقد أسس محمد على باشا أول كلية طب بالمفهوم الحديث بمنطقة أبى زعبل بمصر عام 1827، وعام 1837 انتقلت إلى القصر العينى عام، حيث اتخذت الاسم الذى اشتهرت به لاحقًا «طب القصر العينى»، ومنذ تأسيسها كان التدريس فى كلية الطب باللغة العربية، وهذا دال للغاية خاصة مع وجود أساتذة أجانب من فرنسا وإيطاليا، ولم يبدأ تدريس الطب فى مصر بالإنجليزية إلا بعد خمس سنوات من الاحتلال الإنجليزى.
لا تخفى دلالة هذا التاريخ فى تأكيد أن استخدام الإنجليزية فى التعليم إنما جرى تحت ضغط وإجبار الاحتلال الإنجليزى للحكومة المصرية على إحلال الإنجليزية محل العربية، وكان هذا ضمن خطة الاحتلال للسيطرة على التعليم والثقافة المصرية ووضعهما فى خدمته، وبالعودة إلى النقاشات التى دارت فى ذلك الوقت، وفهم سياسات الاحتلال فى إحلال لغته الإنجليزية محل العربية بوصفها لغة تعليم وتعلم نصل إلى نتيجة مفادها أن هذا التحول مرتبط بشكل جذرى بخدمة الاستعمار وبالقضاء على دور التعليم بوصفه حاضن للنهضة والهوية والمقاومة، وتحويله إلى مؤسسة توفر للاحتلال ما يحتاج إليه من موظفين.
من هذه الزاوية، تبدو دعوة الأزهر لتعريب العلوم تصحيحًا لوضع فرضه الاستعمار بالقوة المسلحة هو التدريس بلغة أجنبية، وخاصة إذا وضعنا فى الميزان عاملا مهما، هو أن كثيرًا من طلاب التخصصات العلمية فى مصر لا يتقنون الإنجليزية، ويواجهون صعوبات كبيرة فى استيعابها، والكتابة بها، وهو ما يستنزف جهودًا هائلة منهم، كان من الممكن - لو تعلموا بلغتهم الأم - استثمار هذه الجهود فى تنمية مهاراتهم وقدراتهم العلمية.
*
علاوة على ذلك، فقد غاب عن حجج المتناقشين التطور الأكثر تأثيرًا فى مستقبل التعليم فى العالم المعاصر، وهو الذكاء الاصطناعى التوليدى، وكفاءة الترجمة الآلية، فالحاجة إلى تعلم لغات أجنبية لأغراض التعلم موضع تساؤل حاليًا، بسبب قدرة الترجمة الآلية على إنتاج ترجمات دقيقة موثوقة باللغة العربية، وأصبح باستطاعة أى إنسان دراسة أى علم باللغة العربية، شرط امتلاك قدرة جيدة فيها، ودون أدنى تأثير فى قدرتهم على متابعة التطورات الراهنة فى المعرفة.
مع ذلك فهناك تحديات وجهود يجب بذلها ليستفيد نظامنا التعليمى من الفرصة الحقيقية المتاحة للتدريس بالغربية، فمن المهم أن تستعيد المجامع العربية دورها المحورى فى إمداد المجتمع العلمى بالمصطلحات الراهنة التى يحتاج إليها، كما نحتاج إلى زيادة المحتوى المعرفى الموثوق بالعربية، كى يشكل ذخيرة خطابية ومدونات وسرديات أساسية لأنظمة الذكاء الاصطناعى، ويقدم بالتالى المنظورات والرؤى العربية بدلًا من الاقتصار على المنظورات والرؤى غير العربية، فالنقاشات وربما المعارك العلمية فى جانب أساسى منها معارك حول سرديات متصارعة تشكل تصوراتنا حول العالم الراهن، وحول ماضيه فى الآن ذاته، ولعل مقترح تدريس الطب يشكل نقطة انطلاق لاستعادة التعليم بلغتنا الأم، وهو مشروع ليس وجيهًا وممكنًا فحسب بل ضرورى ومُلِح أيضًا.