ثارت منذ فترة غير قصيرة شكوك عديدة لدى المهتمين بالتعليم العالى والبحث العلمى فى مصر تجاه نوايا الحكومة فيما يتعلق بهذا القطاع، خاصة ما يتعلق بالجامعات الحكومية. بعض هذه الشكوك يمكن تصنيفه من قبيل الإغراق فى نظريات المؤامرة، والبعض الآخر له ما يبرره.
تنبع الشكوك والمخاوف بالنظر لما نراه من ضعف وتراجع الإنفاق الحقيقى على التعليم العالى والأبحاث والمشاركات البحثية، والتزايد المطرد فى الجامعات الخاصة والأهلية بحفاوة حكومية تبدو أحيانا مبالغة.
ومما يزيد الشكوك حالة الضبابية فى سياسات التعليم العالى، وربما كذلك المخاوف التى أثارتها التجاوزات التى شهدتها الانتخابات النيابية الأخيرة، الأمر الذى استدعى تدخل رئيس الجمهورية شخصيا، وأثار حفيظة البعض من أننا قد نكون بصدد مجلس تشريعى بلا شرعية من يومه الأول، ما يُنبئ بمجلس غير قادر على ممارسة أدوار رقابية حقيقية تجاه الحكومة.
• • •
العنوان العام للتخوفات من سياسات ونوايا الحكومة تجاه التعليم الجامعى ينبع من نظرة تشاؤمية ترى أن الحكومة تسعى للانسحاب من تمويل التعليم العالى والبحث العلمى بشكل تدريجى، بينما تعتمد على مؤسسات التعليم العالى غير الحكومية بصورتيها الخاصة والأهلية.
يخشى البعض أن مؤسسات التعليم العالى الخاصة والأهلية قد تكون قادرة على منح شهادات جامعية، لكن من الصعب حاليا التأكد من جودة الكثير منها، حيث تفتقد فى أحيان كثيرة لمقومات وممكنات البحث العلمى والإسهام المجتمعى لعدة أسباب، لعل من أهمها الطابع الربحى لكثير منها وافتقاد منظومة متكاملة لتعيين وترقية وتثبيت أعضاء هيئات التدريس بها، وكذلك افتقاد نظام قومى للمنح والتمويل الدراسى يضمن جودة وتنوع الطلاب، وهو ما قد يفسر لماذا لا نجد أى جامعة خاصة مصرية ضمن التصنيفات الدولية لأفضل الجامعات العالمية، باستثناء جامعة المستقبل، رغم ظهور هذه الجامعات منذ عام 1992، أى منذ أكثر من ثلاثين سنة، ويبلغ عددها حاليا 36 جامعة.
أُثمّن جهود ومواقف وزارة التعليم العالى والبحث العلمى، والأولوية التى تمنحها لتمويل والارتقاء بمستوى التعليم العالى. يمكننا هنا الإشارة إلى ميزانية التعليم العالى والبحث العلمى التى بلغت فى العام المالى الحالى (2025/2026) 135 مليار جنيه، منها 128 مليارا مخصصة للتعليم العالى، و7 مليارات للبحث العلمى، وهى زيادة بنسبة 109% مقارنة بمخصصات العام الماضى. كذلك أُثمّن جهود الوزارة فى دعم التمويل الذاتى الذى يحصل عليه الأساتذة لأبحاثهم. ومع هذا فما زلنا بعيدين عن استيفاء النسبة الدستورية للإنفاق على التعليم الجامعى، وهى 2% من الناتج المحلى الإجمالى.
ومع التقدير والاحترام لخطاب الحكومة الداعم للجامعات الحكومية والإنفاق العام على التعليم العالى والبحث العلمى، يعانى عديد من أساتذة الجامعات فى مختلف التخصصات من تضييقات إدارية تعوق حرية الحركة اللازمة للحصول على تمويلات بحثية أو حتى لتنظيم مؤتمر أو السفر للمشاركة فى مؤتمرات دولية.
ليس لدينا استطلاعات رأى يمكن أن نستند إليها فى تبيان توجهات عامة داخل الأوساط الجامعية والأكاديمية، ولكن بإمكانى رصد توجهات أجدها فى محيطى الجامعى كما أراها منتشرة فى كثير من النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعى.
يوجد توجه عام عنوانه أن هدف الحكومة هو تقليل عبء الإنفاق على التعليم العالى. ومن هنا تنفذ أيادى الإهمال والتسيب لتفسد تاريخا طويلا من الإنجازات الوطنية التى لا تُعد فقط من محاور نهضتنا العلمية، ولكن من أسس قوة مصر الناعمة وتأثيرها الإقليمى.
مستشفى قصر العينى على سبيل المثال، هو صرح تعليمى وبحثى عريق، درس وتخرج فى قاعاته وعياداته عدد من أهم الأطباء وأساتذة الطب فى مصر والعالم، ويمنح هذا المستشفى العريق فرصا لعلاج آلاف المرضى من الفقراء ومحدودى الدخل بإمكانيات مادية متواضعة وإصرار بشرى يستحق الاحترام والتقدير.
أجزاء من مستشفى قصر العينى التابع لجامعة القاهرة آيلة للسقوط منذ حوالى ثلاث سنوات، وما يزال العمل جاريا على ترميمها، الأمر الذى دفع إدارة المستشفى إلى إغلاق الأماكن المهددة وإعادة توزيع العيادات والمكاتب وزيادة ساعات العمل، بينما انتقلت أعمال أخرى إلى المبنى القائم بالشيخ زايد، وتم تحويل عدد من المحاضرات أونلاين.
على الجانب الآخر، افتتحت جامعة القاهرة جامعتها الأهلية هذا العام الأكاديمى (2025/2026)، وتضم فى كلياتها كلية لطب الفم والأسنان، دون أن تحتوى الجامعة على مستشفى تعليمى، وهو أمر مستغرب بالنظر إلى حتمية وجود مستشفى تعليمى فى أى جامعة تضم كليات للطب أو طب الأسنان، وإلا كيف يتدرب الطلاب والطالبات خلال دراستهم؟ وكيف تضمن المهنة جودة وكفاءة المنتسبين إليها إذا تخرجوا بدون الحصول على تدريب كافٍ؟ ربما توجد خطة لإنشاء مستشفى جامعى خلال العامين القادمين، أو توزيع الطلبة للتدريب فى مستشفيات تابعة أو قريبة.
السؤال الذى أطرحه هنا، وطرحه كثيرون غيرى مرارا: «ولِمَ الاستعجال؟» هل لدينا نقص فى أطباء الأسنان؟ الإجابة: لا.
• • •
مثل هذه الملاحظات وغيرها استدعت مناقشات محمومة وأحيانا شططا غير منطقى، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعى، ومن بين أوجه الشطط ما طُرح بخصوص الخشية من خصخصة جامعات حكومية، أو بيع أراضٍ تابعة لجامعات حكومية لاستثمار خاص لا يرتبط بالتعليم العالى أو البحث العلمى.
نحتاج فى هذه المرحلة إلى خطاب منضبط ورؤية رسمية متسقة مع سياسات الحكومة وأجهزة الدولة، وتهيئة المجال لنقاش عام حول أولويات التعليم العالى والبحث العلمى فى مصر، ودور الحكومة فى تمويل ومساندة الأبحاث والدراسات، وأدوار الجامعات الخاصة والأهلية فى إطار رؤية شاملة للتعليم العالى والبحث العلمى، مع أهمية ضبط حركتها، ومتابعة وتقييم أدائها من خلال مؤسسات التعليم العالى المتخصصة والصحافة الاستقصائية والنقابات.
مرة أخرى، أُثمّن جهود وزارة التعليم العالى والبحث العلمى فى مجال عملها، والرؤية الواردة فى استراتيجية التعليم العالى والبحث العلمى، لكن يبدو أن الاستراتيجيات والرؤى لم تصل إلى جمهور المهتمين من المواطنين والمواطنات، وأصحاب المصلحة المباشرة من الأساتذة والباحثين، ولم تفلح فى صياغة رسالة تستطيع الحكومة تسويقها للمواطنين والمواطنات، وتعبئة الموارد خلفها. الأهم أن هذه الرؤى والاستراتيجيات لم تنعكس فى سياسة منضبطة ومتسقة، ولم تجد صدى يُطمئن الرأى العام.
نحتاج إلى فتح مجال عام للنقاش، أهم ساحاته هو الجامعات ذاتها من خلال مراكزها البحثية ومؤتمراتها العلمية. نحتاج إلى النقاش العام المنفتح فى مجاله الطبيعى الأول، وهو البرلمان بلجانه، والنقابات بأنواعها، ومساحاته الموازية التى شكّل الحوار الوطنى أملا فى توسعها وشمولها. علينا فتح المجال للحوار المنضبط بعيدا عن التشتت والعشوائية، وبعيدا عن ضبابية الرؤية والتوجه، بقصد أو بدون قصد.