مهران والبرادعى وآخرون - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 12:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مهران والبرادعى وآخرون

نشر فى : الأحد 9 أبريل 2017 - 10:15 م | آخر تحديث : الأحد 9 أبريل 2017 - 10:15 م
وهو يرقد على سرير فى غرفة عناية فائقة، ربما استعاد قصته القديمة، التى حكمت حياته على مدى ستة عقود.

كان شابا صغيرا تجاوز بالكاد السابعة عشرة من عمره، عندما وجد نفسه يتطوع فى الحرس الوطنى، يتدرب على السلاح ويقود سرية صغيرة لحماية مطار الجميل فى بورسعيد أثناء حرب (1956).

حاول بقدر ما يستطيع أن يوقف مع رفاقه المتطوعين هبوط المظليين البريطانيين بعد قصف كثيف للمطار، ألحقوا خسائر فادحة بقوات الغزو لكن لم يكن ممكنا وقفه وسقط أسيرا، وكان الانتقام مروعا.

خضع لمحاكمة عسكرية ميدانية وتقرر الحكم عليه بأغرب حكم بتاريخ الحروب، أن تنزع مقلتاه بزعم أنه تسبب بزخات رصاصه فى إصابة ضابط بريطانى بالعمى حتى يمكن نقلها إليه.

هكذا حملته طائرة حربية إلى قبرص حتى تتم تلك العملية، التى تخاصم القوانين الدولية مع أسرى الحرب على نحو فاحش.
فى المحاكمة الصورية قال: إنه لم يرتكب جرما، فقد كان يدافع عن بلده، وهذا واجبه، ورفض أن يسب «جمال عبدالناصر»، فهو رمز المقاومة الوطنية المصرية فى تلك اللحظة الحاسمة، وسبه تنصل من أى معنى يجعله يحترم نفسه.
بشهامة «ابن البلد» تقبل مصيره وعاش أغلب عمره ضريرا يطل على العالم من خلف نظارة سوداء لا يرى منه شيئا.
فقد بصره بجريمة حرب، لكنه لم يفقد بصيرته بضمير إنسان.
عاش وروى قصته عشرات المرات، زاره «عبدالناصر» فى مستشفى عسكرى، كالذى يرقد فيه الآن، سأله بعامية مصرية: «إزيك يا محمد؟».
عرفه من صوته وقال كلاما كثيرا مفاده أن كل شىء يهون مقابل ما حصدته مصر من نتائج الحرب، التى أفضت إلى غروب أكبر إمبراطوريتين فى ذلك الوقت البريطانية والفرنسية.
وهو يرقد على سرير مرضه يعانى من آلام مبرحة فى قلبه وضعف بالغ فى صحته، ربما تذكر أبيات شعر «أمل دنقل»، التى أنشدها كأنها نبوءة فى خريف (١٩٧٦) بعد عشرين سنة بالضبط من نزع مقلتيه، قبل توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» وما تلاها من تحولات استراتيجية سحبت من أى دماء بذلت معنى تضحياتها:
‫«‬لا تصالح!‬
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى..؟
هى أشياء لا تشترى»
ربما ابتسم راضيا والظلام يخيم فى عينيه.
لم يبع شيئا ولا منح الأوسمة ولا مدت أمامه السجاجيد الحمراء.
عندما نقل هذا الأسبوع إلى مستشفى المعادى العسكرى بدا للأطباء أن يسألوه عما حدث لعينيه، ولماذا تبدو كأنها اقتلعت.
روى قصته بنفس الكلمات والأوصاف التى رددها مئات المرات، كأنه راو لسيرة شعبية على مقهى كالتى كان يستمع إليها المصريون قبل دخول الراديو، لكنه بدأ هذه المرة واهنا بأثر المرض الشديد.
قال لابنته عندما انفرد بها حزينا: «إنهم لا يعرفوننى».
لم يكن ذلك صحيحا تماما، فمصر لا تنسى وإن مرت غمامات على ذاكرتها، و«النيل لا ينسى كما كنا نظن» على ما أنشد ذات مرة الشاعر الفلسطينى «محمود درويش».
شىء من الذاكرة استدعى اهتماما جديا بتدهور حالته الصحية.
‫«‬إنه واحد من أبطالنا».‬‬‬
هكذا تردد الوصف فـ«إذا لم نهتم بحياته فإن الرسالة السلبية أن مصر تتنكر لأبطالها الذين ضحوا من أجلها».
لم تكن قصة «محمد مهران» جملة عابرة فى تاريخ بورسعيد، التى وصفت دوما بـ«الباسلة»، فقد لخصت معانى كبرى ظلت تلهم أجيالا متلاحقة.
عندما نتحدث عن تلك المدينة المصرية فإنها تعنى «مهران» ومجايليه، الذين لم يلقوا تكريما يستحقونه، ولا تضمنت مناهج دراسية سيرتهم حتى بدا سؤال: «ما الذى حدث لعينيك؟» طبيعيا ومحزنا فى الوقت نفسه.
فى تلك الأيام البعيدة ألهم تأميم قناة السويس والصمود المصرى أمام عدوان ثلاثى الشعوب المغلوبة على أمرها أنها تستطيع أن تنال حريتها واستقلالها، فإذا كان بوسع دولة صغيرة مستقلة حديثا أن تتحدى مستعمريها الذين غادر آخر جنودهم معسكرات قناة السويس قبل أيام تعد من تأميمها، وأن تقاتل وتصمد وتعلن إرادة المقاومة حتى النهاية، فإن بوسع الشعوب المستضعفة الأخرى أن تنهج الخط نفسه.
لقد اكتسبت مصر مكانة إقليمية ودولية رفيعة من جراء تضحيات أبنائها فى ميادين القتال.
لا يوجد شىء مجانى فى التاريخ ولا تولد زعامة بالادعاء.
ولدت زعامة «عبدالناصر» بإرادة المقاومة وصرخته من على منبر الأزهر الشريف: «الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبدا».
تحمل مسئولية الموقف التاريخى ولمس عمق الجرح الوطنى، فقد كانت مصر للقناة ولم تكن القناة لمصر حتى بدت رهينة لها.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربى والقارة الإفريقية وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بأثر ملحمة الصمود فى بورسعيد.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأى زعم آخر تجديف فى الوهم.
فى ملحمة المقاومة، بتضحيات أمثال «مهران»، ولدت روح جديدة فى مصر لخصتها رواية «الباب المفتوح» للأديبة الراحلة «لطيفة الزيات» فى طلب تقدم المرأة وحريتها.
اكتسبت حقها فى الحرية فى الانضمام إلى الفدائيين لإسعاف الجرحى وتضميد الآلام.
كما تولدت حقيقة أساسية أن من قاتلوا ودفعوا فواتير الدم هم أصحاب الحق الأصيل فى البلد، فى الصحة والتعليم وحق العمل والترقى بالكفاءة دون تمييز.
بروح التضحية تغير وجه الحياة فى مصر، وقد كان «مهران» واحدا من أيقونات ملحمة التغيير الكبير، غير أنه من ثغرات يوليو جرت هزيمة عسكرية فادحة فى (١٩٦٧) قبل الانقضاض على إرثها الوطنى، كأنه اغتيال لكل معنى فى أية تضحية.
وهو على سرير مرضه الشديد، ربما لم يخبره أحد بما قاله الدكتور «محمد البرادعى» بعد لقاء ضمه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق «إيهود باراك» فى ملتقى «ريشموند» بالولايات المتحدة من «أننا ضللنا الطريق لنكون عادلين وموضوعيين سبعين سنة» ـ قاصدا منذ نكبة (١٩٤٨)، التى أفضت إلى اقتلاع شعب من أرضه بترويع السلاح.
أى عدل.. وأى موضوعية؟!
لا يمكن لأمة تحترم نفسها أن تنكر ما تعرضت له من عدوان عنصرى وممنهج على أبسط حقوقها فى أراضيها وإنسانيتها باسم «إننا نفتقد الصورة الكبيرة وهى أن الحرب والعنف ليسا حلا».
لا أحد يطلب الحرب، لكن أين هو السلام؟
وما معنى كل تلك التنازلات المجانية التى تقدم لمجرمى حرب بالمعنى الجنائى الدولى؟ ـ إذا ما كان هناك عدل فى هذا العالم.
وما معنى أن يقول «إيهود باراك»: «نريد أن نرى الفوائد التى سوف تترتب على السلام؟» ـ إذا ما كان هذا السلام استسلاما مجانيا يدمج إسرائيل اقتصاديا واستراتيجيا فى الإقليم دون أى انسحاب من أى أراض محتلة فى الضفة الغربية والقدس والجولان السورية.
هل هذا هو المقصود بـ«صفقة القرن»، الذى سارع «البرادعى» للالتحاق بها لعله يعود من البوابة الإسرائيلية؟
وماذا قد يخطر على بال رجل فقير، لم يحز جائزة نوبل للسلام، وهو يتطلع فى الظلام إلى شىء من الأمل فى بلد منحه عن طيب خاطر نور عينيه؟
ربما تساعده حكمة «أمل دنقل» على إبصار الحقيقة: «هى أشياء لا تشترى»، كما لا تباع.