أوبنهايمر.. عن الفيلم وحقائق التاريخ - حامد الجرف - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 6:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوبنهايمر.. عن الفيلم وحقائق التاريخ

نشر فى : الأربعاء 9 أغسطس 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 9 أغسطس 2023 - 8:50 م

لم أشاهد الفيلم السينمائى «أوبنهايمر» للمخرج كريستوفر نولان وإن كنت متأكدا أنى سأسعى لمشاهدته فى عاجل الأيام، ولكن قرأت مقالين عنه فى يوم واحد للدكتور عبدالمنعم سعيد نشره بالمصرى اليوم ولخبير الاقتصاد والتمويل د. مدحت نافع نشره بالشروق وكلاهما يصطف أيديولوجيًا فيما أحسب وأظن فى فريق الموالاة، فإن كان توصيفى للموقف الفكرى لكليهما خاطئا فالخطأ عندى وأعتذر عنه، وإن كان مصيبا، فالصواب يرتد إلىّ ولا أفاخر به.
ولأنى لم أشاهد الفيلم فسيكون عبثا أن أعلق عليه وسيكون تجاوزا أن أستعرض رؤيته الفنية من خلال مقالين انطباعيين ــ وأعنى أنهما يحملان رؤية مشاهدين له وليسا ناقدين فنيين ممن يعول على رأيهما وفق مقاييس النقد الأدبى والفنى ــ وإن كان مقالاهما كافيين فى الحث على السعى للمشاهدة، وفى التعليق على موقفهما هما من مضامين ما شاهداه وعلقا عليه من واقع الموقف الفكرى والسياسى للكاتبين، مع كل التقدير للاختلاف من حيث هو قيمة واجبة الاحترام فى المجتمعات التى ترنو للديمقراطية، أو نتسربل فى الظاهر بعباءتها، وتتمسك حقا بها، أو تدافع جاهدة عنها.
• • •
كلا الكاتبين تناول الفيلم من زاوية مختلفة فالأستاذ نافع تناوله فى تعبيره عن ظلم المجتمع لمبدعيه وللمختلفين عن سواده الأعظم (أى طغيان الثقافة السائدة والموجهة)، وعلى مساوئ المكارثية وظلم محاكم التفتيش فى البحث عن نوايا ومعتقدات وتاريخ الآخرين والحكم عليهم وعلى الوطن بالفشل من خلال استبعادهم (بمعنى إقصائهم)، وعدم استثمار كفاءاتهم واعتبار المخالفين فى الرأى من عديمى الكفاءة والسعى لاقتلاعهم من مواقعهم وما جرى من محاكمات لا تخضع لأى نظام قضائى (أى لأية معايير للعدالة).
وما انتهى إليه الأستاذ مدحت نافع من استخلاص يتعلق بمجال تخصصه يشير فيه لوجوب الاعتماد على قوى السوق ــ (يقصد إطلاق قوى التنافس الحر) ــ لتحسين كفاءة تخصيص الموارد بما فيها الموارد البشرية، وأن القيود التى تفرض على تلك الموارد البشرية بما فيها الاشتراطات والتعيينات الأمنية تسبب تشوها (بل تعطيلا) لآلية الفرز الطبيعية الحرة القائمة على المنافسة العادلة لتحديد الكفاءة وأن المنتج الوحيد لذلك هو التشوه فى التخصيص الفاشل للموارد البشرية مستعرضا فى سياق تعليقه، التكنيك المكارثى فى التخلص ممن أرادوا اقتلاعهم من مواقعهم بحل المؤسسة التى يعملون بها وإعادة تأسيسها مجددا بجميع موظفيها السابقين عدا من أُريد الخلاص منهم، ولينتهى بأن الفيلم يدق ناقوس الخطر فى مختلف الدول التى تأخذ باتجاهات مكارثية الطابع.
أما الدكتور عبدالمنعم سعيد فجاءت مقالته ملتفة على المضامين السياسية للفيلم رغم كونه من أهل السياسة، دراسة وممارسة، ليكتفى بتناوله فيما يتصل بسطح أحداثه وظاهرها باعتباره تحذيرا من خطر الإبادة الجماعية للإنسانية من خلال حيازة السلاح النووى، وما يهدد الإنسانية من مخاطر مماثلة قد تصل إلى حد الإبادة بتداعيات تزايد الاحتباس الحرارى أو الجوائح الوبائية ككورونا وما إليها. متغافلا بذلك عن الجوهر الحقيقى للفيلم كما أظهره مقال أ. مدحت نافع.
• • •
إذا كان الفيلسوف البريطانى الشهير برتراند راسل قد أكد بأن التحدى هو محرك الحياة، ودافع الحضارة. وأن ذلك التحدى يتطلب وجود محفز له من خارج الجماعة التى تواجهه لتشحذ كل طاقاتها لمجابهته والتغلب عليه، فإن علم النفس السياسى يؤكد كذلك أن لكل جماعة حالتها التنافسية التى تحياها، أو عدائياتها التى تحرك كوامنها لبلوغ أهدافها ولحماية وجودها، فضلا عن أن ذلك هو بعينه درس التاريخ الطبيعى الذى تعلمنا إياه كافة الكائنات الحية فى سيرورة حياتها.
إلا أن المحظور الذى يدلنا عليه درس التاريخ وحكمة السياسة، أن يُختلق العدو اختلاقا من عدم، أو تقدر خطورته وأثره بأكثر مما هو عليه فى الحقيقة، أو تُوسع دائرته عمدا وتُسحب عباءته على كل صوت مختلف لإقصائه، فتنتهى بذلك ممارسة المكارثية لمنازلة دون كوشوتيه لطواحين الهواء، فيبدو من تأخذه غوايتها ويغالى فيها ويتمادى فى غيها، لبلاهة مخادعة النفس، ليهدر طاقته هو، فلا أرض قطع ولا ظهر أبقى، فتصبح تلك الممارسة على ذلك النحو وبالا على الجماعة التى تتبناها لا محفزا لها ودافعا لتقدمها.
أما التكنيك المكارثى فى حل المؤسسات وإعادة تشكيلها بذات أعضائها السابقين عدا من يُراد الخلاص منهم، فلقد عرفناه مرارا فى مصر، لعل أشهر حالاته كانت فى مذبحة القضاء عام 1969، إذ صدر قرار بحل كافة الهيئات القضائية، ليعاد تشكيلها فى اليوم التالى مباشرة بذات الأسماء والدرجات والأسبقيات عدا من أطيح بهم احتيالا على النص الدستورى بعدم قابلية القضاة للعزل. كذلك عهدناه فى حالة القرار الصادر بسحب قرار تعيين البابا شنودة كحالة فردية مماثلة بذات التكنيك المفضوح. والمثالان يثيران قضية كلية أعمق جوهرا وأبعد أثرا وأعنى مفهوم القانون والعدالة فى حقيقتهما، وما تجنح إليه السلطة من توظيف مختلف ناشئ عما تُضمره من فهم مغاير لهما. فالفرض أن القانون سيد مطاع لا مطية يتوسل بها لخبيء الغايات، وأنه يقوم على حماية المصالح الجماعية والفردية الأكثر رجحانا دون إهدار بقية المصالح المرجوحة متى كانت مشروعة كذلك، إذ يبقيها فى درجة أدنى من حماية المصالح الراجحة، وأنه فى صياغته ليس نصوصا جيدة السبك محكمة الصياغة لتأتى وكأنها قاعدة عامة مجردة، رغم كونها مفصلة لحالة فردية فتُسد الذرائع من كل جانب حتى لا تكون منتجة إلا فى تحقيق الغاية الخبيئة والخبيثة معا كما كان الحال فى تعديل المادة 76 من الدستور قبل ثورة يناير. فإن لم تكن تلك هى حقيقة القانون ووظيفته فى نظر السلطة التى تضعه والمخاطبين بحكمه معا، فما هو إلا قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا.
أما إهدار الموارد البشرية باستبعاد الكفاءات إذ جُعلت مفرزة الاختيار ومعاييره أمنية محضة، لضمان الولاءات، فذلك منزلق الانهيار، بتجريف القدرات استعانة بأنصاف المتعلمين وأرباع الموهوبين بل وعديميهما، إذ هم أسلس قيادا وأدنى طاعة وأشد ولاء. ولعل السؤال الكبير الذى يصرخ فى وجوه من يعتمدون تلك المنهجية: أتراه من هو المخدوع؟ ومن هو الخاسر؟ أظن أن الإجابة بإمكاننا أن نتلمسها من مقال الدكتور سعيد، إذ أن ذلك بالفعل هو بدايات طريق الإبادة الجماعية حقا، لا الأوبئة ولا الاحتباس الحرارى ولا حتى السلاح النووى الذى تثبت حرب روسيا فى أوكرانيا أنه لا يعدو أن يكون رادعا نفسيا مزدوجا بما يجعل امتلاكه لا يتعدى حد المباهاة والردع أكثر من أن يكون سلاحا للاستخدام الفعلى يُتخوف من الإبادة الجماعية حال اللجوء إليه.
وليبقى الوباء الحقيقى فى مخادعة النفس واختلاق العدو وتجريف الطاقات وتأسيس القانون على نظرية الحيل لا توازن المصالح، فيضحى مطيةً وأداةً يساق ليخدم سيدا خفيا، لا سيدا مطاعا ينظم ويحمى، فينفرط العقد، وتتحقق الإبادة وهم فى غيهم سادرون.

حامد الجرف قاضٍ مصري سابق
التعليقات