نينا ريتشى - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نينا ريتشى

نشر فى : الخميس 10 نوفمبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 10 نوفمبر 2016 - 9:30 م
كانت الصفة اللصيقة بناجية أمانتها، فما أرسلت لها جارة قط صحن حلوى فى إحدى المناسبات إلا أعادته لها بينما كان من جيرانها من يعتبر الصحن هبة لا ترد، وما وجدت مالا سقط من مخدومتها سهوا أو عمدا إلا وضعته لها فى مكان ظاهر حتى تأتى السيدة وتلتقطه شاكرة. درجت صويحباتها على مداعبتها بالقول إنها اسم على مسمى فقد نجاها الله من هذا الداء اللعين الذى تعانيه كثيرات منهن، هذا الداء الذى يزين لهن أن مال الأغنياء ومتاعهم حلال، وأن أياديهن حين تمتد لتأخذ مما يمتلكه الأغنياء فإنها لا تؤثر عليهم فى شىء فلديهم ما يكفى ويفيض، بالطبع لم تقرأ هؤلاء النسوة روايات أرسين لوبين الذى كان يسرق من الأغنياء ليغدق على الفقراء، لم يقرأنها لأنهن أصلا لا يعرفن فك الخط، لكن الفطرة جعلتهن يدركن معنى الفروق الطبقية وأوصلتهن لضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية على طريقتهن الخاصة جدا. ولم تكن ناجية أحسن منهن ظروفا، بالعكس كانت ظروفها تنويعا على ظروفهن نفسها حيث الزوج غيبه الموت أو الزواج الثانى أو اللامبالاة والأم تحمل على كاهلها العبء كاملا، وحيث الأمل معقود على البنات خاصة ليتعلمن أحسن تعليم ويكون لهن مستقبل أفضل من أمهاتهن فلا يخدمن فى بيت قط
***

نجت ناجية إذن من داء السرقة اللهم إلا....، وإلا هذه نحتاج أن نفتح قوسين لنضع بينهما زجاجات العطر. كانت المرأة مولعة بالرائحة الزكية، وكانت تمتلك القدرة على مقاومة إغراءات كثيرة لو استجابت لها ومدت يدها لملبس أو حلى أو مال لصارت أجمل وأنظف وأغنى، لكنها أمام العطر كانت تعانى ضعفا غريبا. عندما كانت تسوى زجاجات عطر مخدومتها على التسريحة كانت أصابعها تفعل ذلك بكل حرص وكأنها أنامل موسيقار تكتب نوتة موسيقية بديعة، تزيل من فوقها الغبار مترفقة وتضع الواحدة منها إلى جوار الأخرى فى تنسيق مدهش، وكانت هذه المهمة الحبيبة إلى قلبها تستغرق وقتا هو الأطول من ساعات عملها، حتى إذا فرغت منها بسلام وقفت أمام المرآة وانتقت زجاجة عطر ورشت منها رشة خفيفة على عنقها وأخرى على صدرها لتنطلق من بعد وكأن شيئا لم يكن.

على مدى عامين هما عمر التحاقها بالعمل لدى مخدومتها أتيحت لها الفرصة لتجرب كل أنواع العطور: نينا ريتشى، كريستيان ديور، إيف سان لوران، شانيل... إلخ، وكان لها ذوق وشخصية، فلقد كانت تتخير غير عامدة منتجات نينا ريتشى لا لشىء إلا لأنها اكتشفت أن عطرها هادئ يتناسب مع وقارها، والأهم أنه لا يشجع أحدا على التحرش بها فى الأتوبيسات الثلاثة التى تتقافز فيما بينها كل يوم، وهكذا فإنه من بين كل زجاجات عطر مخدومتها فإن زجاجات نينا ريتشى كانت تنفد أسرع.

كثيرا ما سألت ناجية نفسها لماذا كل هذا الضعف أمام العطر دون سواه؟ ولم تجد لسؤالها إجابة شافية، لكن ما كان يهمها أكثر من أى شىء آخر هو تبرير جريمتها اليومية الصغيرة وإخراجها من نطاق فعل «سرقت» إلى حيز فعل: «تعطرت» تماما كما فى القصة الشهيرة لإحسان عبدالقدوس. أول ما تحاورت مع ضميرها بهذا الشأن اعتبرت أن رشات العطر ضريبة مستحقة لها على حبات العرق التى تتساقط منها وهى تعمل كالآلة من الثامنة صباحا إلى ما بعد العصر. واستراحت لهذا التبرير المنطقى ثم مع تكرار الفعل لم تعد تشغل بالها بالبحث عن تفسير إلى أن جاء اليوم المشهود.
***

كانت ناجية تُمارس هوايتها المحببة فى تنظيف التسريحة حين وقع نظرها على زجاجة جديدة لها غطاء عبارة عن عصفور مشرع الجناحين، لمعت عيناها بشدة.. ها قد اشترت مخدومتها عطرا جديدا أضيف إلى العطور المتزاحمة فى هذه المساحة الضيقة، مصمصت شفتيها ولسان حالها يقول إن نقود هؤلاء السادة تذهب بها عصافير على شاكلة غطاء هذه الزجاجة، مدت يدها إلى زجاجة العطر وفتحتها فتسلل إلى أنفها عبير هادئ رجحت أنه من ذلك النوع الذى تدربت على حبه وصارت قادرة على تمييزه عن سواه وكأنها بائعة متمرسة فى متجر للعطور، إنه عبير جديد لنينا ريتشى. غمرتها سعادة طفولية وتمتمت: الله الله، أزاحت الجلباب عن عنقها الطويل الممتلئ وراحت تتلقى من الزجاجة الجديدة أول رشة عطر.

انعكست على المرآة على حين غرة صورة وجه تعرفه حق المعرفة لكن المفاجأة شبهت لها أنها لا تعرفه، أغمضت عينيها ثم فتحتهما مجددا لتتلاقى عيناها هذه المرة مع عينى مخدومتها عبر المرآة. فى ثوان اشتعل رأسها بعشرات الأسئلة: هل تنكر؟ هل تهرب؟ هل تبكى؟ هل تعتذر؟ خيارات كلها بائسة وتجعل ظهرها إلى الحائط لأن رشة العطر ستطاردها وتدمغ جريمتها بالتلبس. تجمدت حيث هى لا تحرك ساكنا، كانت ناجية قد بررت لنفسها رشات العطر المختلسة بأنها ضريبة عمل ومقابل العرق المسال، لكن كيف تبرر الأمر لمخدومتها؟ بل كيف تبرره للناس؟ سيقولون إن من يستبيح ما ليس له يعد سارقا أيا كان ما سرقه. هوى قلبها وانقبض صدرها وهى تتخيل كيف ستنهار سمعتها وتصير اسما على غير مسمى.

وضعت بيد مرتعشة الفوطة الصفراء على التسريحة وقد تبينت أنها ما تزال تمسك بها، تحاملت وتحركت متثاقلة بأكياس الرمل المثبتة فى قدميها ودارت خلف مخدومتها دون أن تنبس بحرف. عبرت الردهة القصيرة الفاصلة بين غرفة النوم وحمام الضيوف وقامت بارتداء عباءتها السوداء، حتى إذا أغلقت باب الشقة من خلفها ومضت كانت قد اختلطت على عنقها وصدرها بقايا من عطر نينا ريتشى مع خيوط رفيعة من عرق الانكسار.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات