الرسائل المشوشة في الحكم والإدارة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرسائل المشوشة في الحكم والإدارة

نشر فى : الإثنين 11 مايو 2020 - 10:10 م | آخر تحديث : الإثنين 11 مايو 2020 - 10:10 م

أكثر ما يضر أى اقتصاد فى العالم هو الرسائل المشوشة. إن كنا نؤمن بالتأثير الفعال للمعلومات على جميع المتغيرات الاقتصادية، فإن رسالة سلبية واحدة يمكنها أن تهوى بسرعة قياسية بأسهم شركة عالمية فى جلسة تداول واحدة بالبورصة. نكتة سخيفة أطلقها «جيرالد راتنر» صاحب سلسلة «راتنرز جروب» الشهيرة والمتخصصة فى بيع المجوهرات حط فيها من قيمة منتجاته واستخف بعملائه أفقد الشركة قرابة 500 مليون جنيه إسترلينى من قيمتها السوقية فى دقائق، وانخفض سعر السهم بمقدار 80% ثم أغلقت الشركة مئات المتاجر، وسرحت قرابة 25 ألف موظف فى نهاية عام 1991 بعد أن دمرت النكتة السخيفة الفلسفة التى نشأت عليها سياسة التسويق بالشركة. تغريدات «إيلون ماسك» مؤسس شركة «تسلا» عادة ما يكون لها تأثير سلبى على أسعار أسهم الشركة، وقد تلقى ضربات سابقة من جهات الرقابة على السوق بتهمة التلاعب بالأسعار.. حتى على مستوى اقتصاد الدول فإن أكبر اقتصاد فى العالم تحركه تغريدات الرئيس الأمريكى مثل «اليويو» حتى أوشكت الرسائل الرئاسية أن تفقد قوتها من فرط الضجيج الذى تحمله. حروب تجارية مع الصين، وعود بالقضاء على البطالة وتشجيع الصناعة المحلية، اتهامات متبادلة مع المعارضين، دعم غير مسبوق للبورصات.. وعد ووعيد فى تغريدات تعاقبت خلال سنوات رئاسة «ترامب» ومازالت تترى.
***
فى الإدارة ما أقسى أن تدار منظومة ما برسائل مرتبكة ملتبسة على أصحاب المصلحة والتخصص، ناهيك عن العوام. من الجائز أن تختلف سياسات الغرف المغلقة عن تلك المعلنة على شاشات البورصة وفى المؤتمرات الصحفية، لكن من المستحيل أن تصل درجة الاختلاف إلى التنافر والتضاد على طول الخط! تلك الحالة من النفاق المؤسسى لا أمل لها فى الاستمرار، وإن استمرت فإنها تدور بأصحابها فى دوائر عبثية مفرغة ولا تنطلق أبدا إلى الأمام.

مثلا من المستبعد أن تؤسس شركة أو هيئة على فلسفة معلنة تقوم على الاستقلال واللامركزية، ثم تتحول فى الممارسة العملية إلى كيان تابع لا يمكن أن يتخذ قرارا مستقلا.. المعضلة التى تقع فيها إدارة تلك المؤسسة أنها تنأى عن تحقيق الغرض من نشأتها كلما كانت أكثر اتساقا مع الواقع العملى، وأكثر امتثالا لتوجهات ذلك الواقع.. هنا تنشأ أزمة قيمية حادة تنقلب معها أنساق الثواب والعقاب رأسا على عقب!

الرسائل المشوشة يمكن أن تكون دعوة للمستثمرين للإقبال على نشاط اقتصادى ما، يتزامن معها عدد من القرارات القاتلة لتلك الدعوة والمدمرة لذلك النشاط. يمكن أن تأتيك فى هيئة قانون أو تشريع أو قرار تنفيذى يتعارض مع سنوات من العمل والسعى فى الاتجاه المعاكس. يمكن أيضا أن تكون الرسائل المشوشة فى صورة تعيينات وتكليفات لأشخاص عرف عنهم توجه مغاير تماما للأهداف المرجو تحقيقها من الوظيفة.. مثلا أن تكلف شخصا يكره الصناعة بملف الصناعة فى مؤسسة أو دولة، أو تكلف شخصا يفتقر إلى الدبلوماسية بقيادة مباحثات هامة، أو تكلف شخصية ثورية بمهام تهدئة الأوضاع فى بيئة العمل.. أمثلة لا حصر لها على سوء الاختيار الذى تتعدى آثاره السلبية فشل المكلف بأداء مهامه إلى إطلاق رسالة مرتبكة مشوشة إلى جمهور المراقبين مؤداها أنك تريد شيئا ولكنك تبحث جاهدا عن تكليف من لا يحققه !

يمتد الأثر السلبى للرسائل المشوشة إلى شباب الخريجين، تعبث بأفكارهم، تبث فيهم اليأس والعدمية، فإن هم أعملوا عقولهم لقراءة الرسائل ــ وهو إعمال محمود للعقل ــ وقعوا فى حيرة من قراءة المشهد، وعز عليهم التماس الأسباب لتحقيق الأهداف.. وإن هم تعمدوا إغفال قراءة الرسائل، ثم عموا وصموا فلا أمل لهم فى التعلم والمعرفة، ولا سبيل إلى تحقيق أهدافهم إلا باستجداء الحظ والواسطة والمحسوبية.

الحقد يمكن أن يكون سببا فى بث رسائل مشوشة. تشويه جهود الكفاءات أو الحط منها أو الرغبة فى الانقضاض عليها ونسبتها إلى من ليسوا أهلها، هو رسالة عالية التشويش تقتل الأمل وتسقط القدوة وتحفز البلادة والخسة وسوء الخلق. بل وممكن أن تهدر عشرات الفرص على الدول والمؤسسات فى سبيل أن يرى الحاقد جدارا تهدم إذ عز عليه أن يظهره وما استطاع له نقبا.
الرسائل المشوشة هى أخطر محفزات الفساد الإدارى، هى التى تكافئ الفاسد المفسد وتعاقب الملتزم المصلح، فتتحول إلى درس جماعى مخيف يدعو إلى قلب المعايير وخراب الذمم والقنوط من سواء السبيل.
***
المناخ العام فى مختلف بقاع الأرض يغص برسائل مشوشة، ساعد على سرعة دورانها ثورة المعلومات، وتطور الوسائط التقنية، لكن وحدها دولة ومؤسسات القانون تكون قادرة على صناعة شبكة تنقية لكثير من تلك الرسائل. قوام تلك الشبكة احترام القانون ووحدة الغاية وسلامة وشفافية القرارات وتنزيه الإدارة عن الأهداف الشخصية و«خدمة ما بعد البيع» نعم يمكن وصفها بهذا الوصف وإن انقطعت صلتها عن مقصود خدمة مستهلك السلعة بعد أن يقوم بشرائها من صيانة وخلافه.. إنما المقصود بها خدمة صاحب المسئولية لأهدافه الخاصة بعدما يتم صفقة بيعه لضميره أو يقضى من وظيفته وطرا.

يقول تعالى فى سورة النساء: «ولَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِرُنَّ خَلْقَ اللَهِ. وَمَن يَتَخِذِ الشَيْطَانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللَهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا».

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات