ذكريات «الحب فى المنفى» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذكريات «الحب فى المنفى»

نشر فى : الجمعة 11 نوفمبر 2016 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 11 نوفمبر 2016 - 9:25 م
فى مثل هذه الأيام قبل ثمانى سنوات كنت أناقش خطة الماجستير فى سيمنار الدراسات العليا بكلية الآداب جامعة القاهرة، كان موضوعها «تعدد الأصوات فى روايات بهاء طاهر»، وكانت تحت إشراف الناقد القدير الدكتور حسين حمودة. لكن علاقتى بأدب بهاء طاهر، وبهاء طاهر نفسه، كانت أسبق من ذلك التاريخ بأعوام عدة، حينما دعاه أستاذنا الدكتور سيد البحراوى (متعه الله بالصحة والعافية) فى لقاء مفتوح مع طلاب الفرقة الرابعة بالكلية حول روايته الجميلة «الحب فى المنفى».

كانت الطبعة الأولى من الرواية نُشرت مسلسلة على صفحات مجلة «المصور»، وصدرت فى كتاب عن سلسلة روايات الهلال عام 1995، وقوبلت حينها بحفاوة نقدية غير مسبوقة، كتب عنها نقاد كبار مثل شكرى عياد وجابر عصفور وسيد البحراوى، وقال عنها المرحوم على الراعى «إنها رواية كاملة الأوصاف».

كان حدثا جديدا وغريبا أن تحقق رواية صادرة فى منتصف تسعينيات القرن الماضى كل هذا النجاح ويعاد طبعها أكثر من مرة، وتلقى حظوة لدى النقاد والقراء معا! لكنها فى الحقيقة كانت نقطة فاصلة فى مسيرة بهاء طاهر الإبداعية؛ وجسدت لحد كبير رهافته الإنسانية وحساسيته الفنية العالية ولغته السردية البديعة، بكامل طزاجتها ونداوتها التصويرية وعبقها الشعرى الذى لا يخفى على أهل الذوق والنظر والبصر بالرواية والشعر معا!

تداعت الذكريات وأنا أتصفح الطبعة الجديدة من «الحب فى المنفى» (صدرت عن دار الشروق)، كانت هذه الرواية الأولى التى أوقعها من كاتبها «لايف» ويكتب لى بخطه فى صدر الصفحة الأولى من غلافها الداخلى «أملا وثقة فى مستقبل باهر ومشرق» ثم توقيع بهاء طاهر، الذى كان يمثل لجيلى وربما من الأجيال الأسبق أيقونة للكاتب المثقف الحقيقى، كان حضوره عارما وملء السمع والبصر، يكاد يكون هناك شبه إجماع فى الوسط الثقافى على قبول هذا الرجل ومحبته وتقدير إبداعه، لا ينازعه فى ذلك منازع ولا منافس (تغير هذا كله بعد 2011 وأصبح بهاء طاهر فى نظر حفنة مدعين مجالا للقيل والقال والادعاء والاتهام.. وربنا يعافينا من أمثال هؤلاء!).

لم أكن قرأت قبل «الحب فى المنفى» لبهاء طاهر إلا «أنا الملك جئت»، ومجموعته «الخطوبة»، وروايته التى تحولت إلى مسلسل نال مشاهدات عالية «خالتى صفية والدير»، ثم لاحقا قرأت «قالت ضحى»، «شرق النخيل». تأكد لى أن تجربة بهاء طاهر الإبداعية عموما ــ وتجربته الروائية على وجه الخصوص ــ تمثل تجربة بالغة العمق والثراء من ناحية، وشديدة الخصوصية والتميز من ناحية ثانية. فنصوصه الروائية فريدة فى تناولها للعالم الواقعى الخارجى الذى يبدأ من قرية صغيرة هامشية فى أقصى صعيد مصر، ويتسع ويمتد ليشمل العالم كله بل الإنسانية كلها. كما تتسع التجربة بإدراك واعٍ وحس إنسانى بالغ الرهافة لرصد تحولات الواقع والمجتمع وتبدلاته الهادرة بطرائق سردية بالغة التمكن والإحكام.

تجسد ذلك بغاية الإحكام والنضج فى رواية «الحب فى المنفى» التى قدمت بانوراما هائلة لتراجيديا انهيار الحلم الناصرى، ورصدت ما ضرب أعماق هذه البقعة الملتهبة من العالم خلال السبعينيات والثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات من القرن الماضى. ستحضر أحداث تاريخية لها دلالتها فى الرواية؛ وفاة عبدالناصر، تولى السادات مقاليد الحكم، انفجار ثروة النفط عقب حرب أكتوبر 1973، سياسة الانفتاح، صعود المد الدينى بأشكاله المتطرفة، ثم الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى 82، وأخيرا شبح الرأسمالية المتوحشة وهو يطل برأسه فى الصفحات الأخيرة من الرواية.

أن تجمع رواية واحدة فى إهابها كل هذا الحشد من الأحداث فضلا عن اتساع فضائها المكانى والزمانى يعنى ذلك لزوما وضمنا أننا بإزاء روائى قدير، متقن الصنعة، واعٍ بحدود وإمكانات النوع الروائى الذى يمارسه واختاره ليكون هو حامل رؤيته الفنية والجمالية فى ما يدور حوله ويتأثر به وينفعل معه وله.

ورصد غيرُ ناقد فى قراءته للرواية البديعة «تعدد الأساليب الفنية فى الرواية بين الحوار والمونولوج والحلم وصوت القصيدة والكابوس، وبين لغة محايدة، ولغة شاعرية مكثفة رقراقة تصوغ فضاء إنسانيا يسمو فوق بشاعة الواقع، وليست اللغة الشاعرية هنا مجرد قناع أو حلية، ولكنها ضرورة يمليها منطق العمل الفنى، فتجىء شاعرية الأسلوب هنا معادلا موضوعيا للسقوط العربى والقبح الغربى معا، ونجح الكاتب فى مزج الجانبين الفنى والتسجيلى فى لغة متماسكة، كما مزج بين الجانبين التسجيلى والخيالى فى أكثر من موضع من الرواية».

طبعة جديدة من «الحب فى المنفى» خليقةٌ بأن تثير كل هذا القدر من الذكريات، وبهجة قراءة الروايات الجميلة التى كدنا نفقدها فى زمننا هذا!