الثورة المصرية ومشكلة التبعية - جلال أمين - بوابة الشروق
الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 2:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة المصرية ومشكلة التبعية

نشر فى : الجمعة 12 أغسطس 2011 - 8:20 ص | آخر تحديث : الجمعة 12 أغسطس 2011 - 8:20 ص
ما فائدة ثورة يناير إذا لم تمكنا من التخلص من التبعية؟ إن مساوئ نظام حسنى مبارك كثيرة، ويصعب حصرها، ولكن من أسوأها بلا شك، إن لم يكن أسوأها على الإطلاق، ضعفه المذهل أمام الإدارة الأمريكية، واستعداده الدائم للانصياع لها، ومن ثم لما تريده إسرائيل أيضا.

نعم، لقد بدأت هذه التبعية فى عهد أنور السادات، واستمرت حتى مقتله فى 1981، ولكن حسنى مبارك ورجاله لم يحيدوا قيد أنملة عن طريق التبعية الذى شقه السادات، سواء فى السياسة الاقتصادية، أو السياسة العربية، أو فى الموقف من إسرائيل، أو من مختلف القضايا الدولية التى تبدى الولايات المتحدة أى اهتمام بها.

فى عهد حسنى مبارك تنازلت مصر عن زعامتها للبلاد العربية، وعن الولاء للقضايا العربية، لأن هذا هو ما ترغب فيه الولايات المتحدة وإسرائيل، وتنازلت عن حماية القطاع العام والاقتصاد الوطنى، وفتحت الأبواب بلا ضابط لاستيراد السلع ورءوس الأموال الأجنبية، مهما كانت الأضرار التى يمكن أن تلحق بالصناعة الوطنية، وبالاستثمار الوطنى، التى تهدد تحقيق حد أدنى من الاكتفاء الذاتى الضرورى فى سلع أساسية كالقمح، ومن ثم سمحت للولايات المتحدة باستخدام حاجتنا إلى القمح كوسيلة للضغط علينا لتنفيذ أغراضها الاقتصادية والسياسية فى المنطقة.

كما أبدى نظام حسنى مبارك استكانة مهينة أمام توجيهات صندوق النقد الدولى إلى حد اختيار رؤساء الوزراء والوزراء المسئولين عن الاقتصاد، أو عزلهم، طبقا لرضا أو سخط صندوق النقد والإدارة الأمريكية عنهم.

وسمح لهيئات أجنبية، كهيئة المعونة الأمريكية والبنك الدولى، بالتدخل فى شئون التعليم المصرى تحت شعار مزيف هو «إصلاح التعليم»، بما فى ذلك التدخل فى مقررات مؤسسة عريقة كالأزهر.

والحقيقة أن المطلوب لم يكن إلا العمل على تغيير العقلية المصرية فى اتجاه قبول المشروع الصهيونى، وأسوأ ما فى الحضارة الغربية، ولو تطلب ذلك إضعاف الولاء للغة العربية والهبوط بمستوى تعليمها، وتزييف التاريخ من أجل إضعاف الهوية الوطنية، وإضعاف الولاء للقومية العربية.

سارت السياسة الخارجية المصرية أيضا خطوة بخطوة طبقا لأهواء السياسة الأمريكية، فصادقت مصر من صادقه الأمريكيون وعادت من عادوهم. هكذا تقلب الموقف المصرى من ليبيا والعراق والسودان طبقا لتقلبات السياسية الأمريكية. فمصر تصادق صدام حسين وجعفر النميرى ومعمر القذافى طالما ظلت الولايات المتحدة راضية عنهم، ثم تنقلب ضدهم بمجرد انقلاب الولايات المتحدة ضدهم. وتحدد مصر موقفها من الاعتداء العراقى على الكويت طبقا لما تمليه الإدارة الأمريكية، بل وتشترك فى الاعتداء العسكرى الأمريكى على العراق لإضفاء بعض الشرعية على هذا الاعتداء.

وتتوتر العلاقة المصرية السورية عندما تتوتر علاقة أمريكا بسوريا، وتعادى مصر النظام الإيرانى بنفس الدرجة بالضبط التى تبديها الولايات المتحدة، فالهجوم يشتد على إيران عندما تقرر أمريكا أن تزيد درجة الضغط عليها، ثم تخف حدة الهجوم المصرى إذا أرادت أمريكا أن تجرب سياسة المهادنة.

ثم تعامل مصر ببرود مذهل دولا فى أمريكا اللاتينية كانت ترغب فى مد يد الصداقة لها، وتفيد مصر إفادة بالغة، سياسيا واقتصاديا لو صادقتها، لمجرد أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى هذه الدول بعين العطف، لأنها تتخذ سياسات مستقلة ووطنية.

هكذا كانت مصر عندما قامت ثورة 25 يناير 2011، فنجحت نجاحا باهرا فى إشاعة شعور رائع باسترداد الكرامة، والقدرة على تحقيق آمال المصريين. فهل هناك أمل أعز من استرداد إرادتها ضد أى ضغط خارجى؟ أى أعز من التخلص من قيود التبعية؟

●●●

كلما عبرت عن هذا الرأى الذى يعلق أهمية كبرى على ما يمارس على مصر من ضغوط خارجية من القوى الكبرى، وجدت من يقول لى إنى أهمل مسئوليتنا نحن عما نحن فيه، وأن من السهل جدا أن يلقى المرء بالمسئولية على غيره فيتنصل من أخطائه. وأنا على استعداد للإقرار بأنه مهما كانت مسئولية العوامل الخارجية كبيرة، فالطرف الأضعف يتحمل أيضا جزءا من المسئولية عن ضعفه. وقد قيل مرة بحق إن السكّير لا يصح أن يلقى بالمسئولية عن إدمانه الخمر على صاحب الحانة. وكذلك الدولة التابعة التى تستكين للضغوط الخارجية، لابد أن تتحمل جزءا صغيرا أو كبيرا من المسئولية. وقد أصاب أيضا أحد الكتّاب عندما صك تعبير «القابلية للاستعمار» لوصف حالة مثل حالة هذه الدولة، قاصدا أوجه الضعف الداخلية التى تشجع القناص على اقتناص فريسته.

كل هذا صحيح، وهو يحذرنا من التسرع فى إلقاء المسئولية على الغير، ومن التعميم على جميع حالات السيطرة والاستغلال والاستعمار بدلا من بحث كل حالة على حدة. ولكن قراءة التاريخ المصرى تجعلنى أميل إلى التأكيد على أهمية العوامل الخارجية، لظروف تتعلق بمصر بالذات، أكثر مما تتعلق بغيرها. بل وأجد من السهل تفسير كثير من أوجه ضعفنا الداخلية ذاتها، بما تعرضت له مصر من عدوان خارجى.

إلى لا أجد أى سبب للاعتقاد بأن المصرى أقل ذكاء من أمم خرجت أو كادت تخرج من محنتها فى العقود الأخيرة، ولا أقل شجاعة أو همة أو حيوية. وما أكثر أن قام المصريون بانتفاضات وهبات ومحاولات النهضة، فتعرضوا دائما لردود فعل قوية من الخارج لوأدها. وعندما شرعت منذ ثلاثين عاما فى دراسة تطور العلاقة بين مصر وبقية دول المشرق العربى وبين الغرب «أسفرت عن كتاب بعنوان المشرق العربى والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1980» وجدت أمثلة كثيرة على محاولات مبهرة للنهضة فى بلد عربى بعد آخر، منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأدها جميعا تدخل دولة أو أخرى من الدول الاستعمارية، من الحركة الوهابية فى الجزيرة العربية، التى كانت فى بدايتها غير ما تطورت إليه فيما بعد، إلى حركة محمد على فى مصر وسوريا والسودان، إلى حركة الأمير بشير فى لبنان، إلى إصلاحات داود باشا «حليف محمد على» فى العراق، إلى الحركة السنوسية فى ليبيا «التى امتدت إلى بلاد عربية أخرى»، إلى الحركة المهدية فى السودان.. إلخ كلها ضربت بقسوة من دول الاستعمار الغربى. واستمر الضرب والاعتداء خلال القرن العشرين، حتى ضربت تجربة جمال عبدالناصر فى مصر ومحاولته لإحياء القومية العربية، باعتداء 1967.


●●●

عندما تقوم ثورة جديدة مبهرة فى مصر فى يناير 2011 لا أستطيع إذن أن أتجاهل موقف القوى الخارجية منها، وأن أستغرق فى تفسير ما يجرى فى مصر بعوامل ودوافع داخلية بحتة، فليس هذا هو ما نتعلمه من التاريخ، ومن التاريخ المصرى بالذات. وقد تعرضت فى مقال سابق «بجريدة الشروق» لما يمكن أن يكون عليه موقف الولايات المتحدة من هذه الثورة المصرية، باعتبار أن علاقة مصر بالولايات المتحدة استمرت لمدة أطول من ثلث قرن علاقة التابع بالمتبوع، وكانت النتائج سيئة للغاية، فى مختلف المجالات، الاقتصاد والسياسة العربية والخارجية، والأحوال الاجتماعية، والتعليم.. إلخ، كما حاولت أن أبين فى بداية هذا المقال.

إن الذى حدث فى يناير وفبراير 2011 أعطانا أسبابا قوية للتفاؤل، ومازلت أعتقد أنه مهما أصاب هذه الثورة من نكسات، فإن الآتى لا يمكن أن يكون أسوأ من الماضى، إذ كانت الثلاثون عاما الماضية، فى رأيى، من السوء بحيث يصعب جدا أن نتصور ما هو أسوأ منها.

ولكن طموحاتنا وآمالنا يجب بالطبع أن تذهب إلى أبعد من هذا، ولا يمكن أن نقنع بأن يكون مستقبلنا أفضل بعض الشىء مما كنا فيه، ونحن نعرف أن تحقيق هذه الطموحات والآمال مرهون قبل كل شىء بالخلاص من التبعية. فما هى فرصتنا الحقيقية فى تحقيق هذا الخلاص؟

●●●

سوف أسمح لنفسى بأن أشرح للقارئ أسباب تفاؤلى فى هذا الأمر أيضا، أى أسباب اعتقادى بأن هناك من التغييرات التى تحدث الآن فى العالم مما يعطى لدولة كمصر، «وأمة كالعرب» فرصة لمحاولة النهوض من جديد، بل ولإحراز نجاح فى ذلك أكبر من أى نجاح سبق لنا تحقيقه.

إن قراءة التاريخ المصرى خلال القرنين الماضيين تؤدى بنا إلى النتيجة الآتية: إن أفضل الفترات التى مر بها المصريون من حيث تحقيق «أو على الأقل الشروع فى تحقيق» نهضة حقيقية فى مختلف المجالات، كانت هى الفترات التى تمتعت فيها مصر بدرجة من حرية الحركة إزاء القوى الخارجية، وأن هذه الحرية فى الحركة كانت تتوافر عندما تسود العلاقات الدولية درجة من التوازن تمنع إحدى القوى من الانفراد بفرض إرادتها على الدول الأصغر والأضعف، كانت أفضل فترات التاريخ المصرى، فى رأيى، من هذه الزاوية، هى فترة حكم محمد على، استثناء السنوات العشر الأخيرة من حكمه، وفترة حكم جمال عبدالناصر، باستثناء السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه. أدى توازن القوى الدولية فى عهد محمد على إلى شل يد كل من انجلترا وفرنسا عن التصرف فى مصر، كما أدى توازن القوى فى عهد عبدالناصر إلى تقييد حركة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى إزاء مصر، فانطلق محمد على كما انطلق عبدالناصر لعمل اللازم لبناء نهضة مصرية، فشيد كل منهما ما لانزال نجنى ثماره حتى اليوم، رغم انقضاء نحو نصف قرن على انتهاء تجربة عبدالناصر، وأكثر من قرن ونصف القرن على انتهاء عهد محمد على، وعلى الرغم من كل ما حدث بعد سقوط كل منهما من نكسات وما فرض على مصر بعد كل منهما من تبعية.

إن هناك من الدلائل القوية ما يشير إلى أن عهدا جديدا قد بدأ بالفعل فى العالم، من حيث أفول نجم القطب الواحد المسيطر على العالم «الولايات المتحدة» وصعود عدة نجوم أخرى فى مناطق مختلفة من العالم «فى شرق وجنوب آسيا، وفى أوروبا، وفى أمريكا اللاتينية، بل وفى الشرق الأوسط أيضا»، تنمو قوتها بسرعة، بل وبدأت بالفعل فى شل يد الولايات المتحدة عن الحركة. لا يكفى أن تكون للولايات أكبر قوة اقتصادية وعسكرية فى العالم، كما هى بالفعل اليوم، بل الأهم هو ما طرأ ويطرأ من تغيير على القوة النسبية فى كلا الأمرين، وهو تغيير يجرى بسرعة لغير صالح الولايات المتحدة، مما يضعف بشدة من قدرتها على المساومة، ناهيك عن فرض إرادتها المنفردة.

الدلائل كثيرة «خاصة بعد حدوث الأزمة المالية والاقتصادية فى سنة 2008 التى مازالت مستمرة، بل وحد فى الأسابيع القليلة الماضية ما يضفى عليها خطورة أكبر» على حاجة الولايات المتحدة الشديدة إلى أن تتخذ الصين والهند وأوروبا سياسات اقتصادية تخفف من حدة الأزمة فى الولايات المتحدة. وفى مثل هذه الظروف تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى قبول تطورات اقتصادية وسياسية ما كانت لتقبلها من قبل.
فى مثل هذه الظروف يمكن أن تفهم مثلا الصعود السريع لقوة دولة كتركيا فى الشرق الأوسط، أو البرازيل فى أمريكا اللاتينة، واتخاذ كل منهما مواقف سياسية واقتصادية لا ترضى عنها الولايات المتحدة.

بل ونفهم قدرة إيران على الاستمرار فى تحدى الإرادة الأمريكية، بل وأيضا أن نفهم الفشل الذريع للسياسة الأمريكية فى العراق، وعجزها عن الخروج من ورطتها فى أفغانستان.

فى ظروف جديدة كهذه، هل يستحيل على مصر أن تعود للوقوف على قدميها، وتنفض عن نفسها تراب التبعية، وتشرع فى بناء نهضة جديدة، بل وفى قيادة نهضة جديدة للعرب جميعا؟ أعتقد أن الظروف الدولية تنبئ ببزوغ عصر جديد ملائم تماما لنهضة مصرية، وملائم أيضا لنهضة مماثلة فى بلاد عربية أخرى، وفى دول أخرى فى أفريقيا وآسيا، مثلما حدث من قبل فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.

قد يقال: ولكن من أين لنا زعيم مثل أردوغان الذى حظيت به تركيا، أو مثل لولا دا سيلفا الذى حظيت به البرازيل، ولا يمكن قيام نهضة والتخلص من التبعية إلا إذا توافر للأمة زعيم وطنى قوى، يستطيع أن يلهم شعبه ويقوده فى طريق النهضة.

ولكنى أعتقد أن العلاقة بين حدوث النهضة وبين وجود زعيم ملهم هى عكس ما يظن كثيرون. الزعيم مهما كان ملهما ورائعا لا يصنع الظروف الملائمة، ولكن الظروف الملائمة هى التى تصنع الزعيم الرائع، أو بالأحرى تفسح له المجال وتظهره بعد أن كان مختبئا، الأمثلة التاريخية التى يمكن تقديمها على ذلك لا نهاية لها، والقاعدة تنطبق على لولا دا سيلفا فى البرازيل كما تنطبق على أردوغان فى تركيا، وكما تنطبق على محمد على وجمال عبدالناصر فى مصر. نعم كان محمد على شخصية قوية لا حد لطموحه، وذا إرادة حديدية، وكان عبدالناصر رجلا وطنيا ذكيا وطموحا أيضا، وذا إرادة حديدية. ولكن أمثال هذا الرجل وذاك ليسوا بالندرة التى قد نظنها، وإنما الظروف التى تسمح لأمثال هؤلاء بالظهور هى الظروف النادرة.

●●●

إنى أدرك تماما، كما يدرك غيرى، أن الظروف التى تواجه مصر والأمة العربية أصعب مما تواجه دولة كتركيا أو البرازيل، فلدينا البترول الذى يسيل له لعاب العالم، وفى وسطنا إسرائيل التى دأبت على لعب دور المخرب فى تعطيل نهضة العرب. ومع هذا فإنى لم أفقد الأمل، ولا يجب علينا أن نفقده.
من كان يظن فى سنة 1800، وسط ظلام حكم الولاة العثمانيين والمماليك، أن مصر بعد أربعين عاما ستصبح أقوى قوة ضاربة فى المنطقة، وأن يخرج منها من الأطباء والمهندسين والمفكرين من يمكن أن نفاخر بهم العالم؟ ومن كان يظن فى 1950، فى ظل فساد الملك فاروق وحاشيته، أن من الممكن أن تحقق مصر، فى أقل من خمسة عشر عاما، ثورة صناعية صغيرة، وأن تعيد للفلاح المصرى والعامل المصرى كرامتهما وأن تقود حركة قوية وواعدة لتوحيد العرب؟

ولا يجوز أن نقول إن كل هذا قد انهدم وصار كأن لم يكن، فليس هذا صحيحا. إذ مهما شكونا من سوء حالنا فى الحاضر، فهو أفضل من نواحٍ كثيرة ومهمة مما كنا فيه فى سنة 1950، وبالطبع أفضل مما كنا فيه فى 1800، وبفضل ما فعله عبدالناصر ومحمد على.

كما لا يجوز إغفال الجوانب الناصعة التى أسفرت عنها ثورة يناير 2011، وأسقطت نظام حسنى مبارك البالغ الفساد. لقد كشفت هذه الثورة عن شباب جديد رائع، وعن نساء وفتيات مصريات رائعات، أكثر حرية وأشد ثقة بالنفس مما كانت عليه المرأة المصرية فى أى وقت فى تاريخها، ومن حقنا وواجبنا أن نفخر بهن ونفسح لهن الطريق ولا نكمم أفواههن. هؤلاء وأولئك ينتظرون فقط أن ينفرج النظام الدولى عن مساحة غير ملبدة بالغيوم لكى ينطلقوا فيها، كما انطلقت أجيال سابقة لبناء نهضة جديدة.

هذا التفاؤل بإمكانية تفرق السحب وظهور السماء الصافية من جديد ليس حلما أو خيالا. إن نجاح الشباب المصرى فى إزاحة نظام مبارك علامة من علامات هذا الانفراج، وكذلك ما حدث ومازال يحدث فى بلاد عربية أخرى، وكما أن بداية صعود الشمس يساعد على تبديد السحب، فإن الحركة التى بدأت فى تونس فى ديسمبر، وفى مصر فى يناير، ثم توالت فى بلد عربى بعد آخر، لابد أن تسفر فى النهاية عن زيادة قدرة العرب على مقاومة الضغوط الخارجية، وممارسة إرادتهم المستقلة.

صحيح أن هذه الممارسة قد مرت ببعض الانتكاسات، ولكن لا يجب أن ننسى أننا بعد أكثر من ثلاثين عاما من خضوعنا لقيود قاسية على قدرتنا على الحركة المستقلة، تبين لنا فجأة أننا لم نفقد هذه القدرة تماما، وأن الأمر لا يتطلب أكثر من بعض الجرأة، وتكرار المحاولة المرة بعد المرة. فلننظر مثلا إلى تجربة نبيل العربى كوزير للخارجية المصرية، التى لم تستمر أكثر من أربعة أشهر.

هل تذكرون كيف استطاع فى هذه الفترة القصيرة أن يعيد لنا الأمل فى قدرتنا على حل مشكلات عويصة «أو على الأقل فى البدء الجدى فى حلها» بمجرد أن تذكرنا أننا لسنا فاقدى الأهلية وعديمى الإرادة، سواء فيما يتعلق بموقفنا من إيران، أو بقضية فلسطين، أو بقضية مياه النيل.. إلخ؟ صحيح أنه نقل للأسف أمينا عاما لجامعة الدول العربية حيث لا يجد نفس القدر من حرية التصرف، وصحيح أن الذى حل محله لم يكن مستعدا لممارسة نفس القدر من الحرية، ولكن هل تذكرون كيف وقف العرب يصفقون لنبيل العربى بحماسة لدى ترشيحه أمينا عاما للجامعة العربية؟ ألا يدل هذا على أن الشعوب العربية كلها «على الرغم من خضوعها للاستبداد» مازالت قادرة على تمييز الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، وعلى انتهاز أى فرصة واعدة تتاح لها؟
جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات