عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» (4) - محمود محي الدين - بوابة الشروق
السبت 9 نوفمبر 2024 5:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» (4)

نشر فى : الأربعاء 13 ديسمبر 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 ديسمبر 2023 - 8:00 م
رغم تراجع معدلات التضخم العالمية هذا العام إلى أقل من 7 فى المائة، بعدما اقتربت من 9 فى المائة العام الماضى، وتوقع انخفاضها إلى أقل من 6 فى المائة فى العام المقبل، فإنه من غير المرجح أن تتراجع أسعار الفائدة لمستوياتها التى اعتاد صناع القرار وعموم الناس عليها قبل موجة ارتفاعاتها الأخيرة. ستنخفض فعلا أسعار الفائدة خشية الوقوع فى حلقة من الركود أفلتت منه الاقتصادات الكبرى هذا العام بزيادة معدلات النمو عن توقعاتها، ولكنها ستستمر مرتفعة لفترة طويلة بعد ما شهده الاقتصاد الأمريكى والأوروبى من معدلات تضخم أرجعت الذاكرة إلى موجات انفلات الأسعار منذ 40 سنة مضت، وعلى البلدان النامية أن تتعايش مع حالة لأسعار الفائدة ومن ثم تكلفة تمويل «أعلى لفترة أطول»، بعدما انخرط كثير منها فى التوسع فى الاقتراض الدولى من دون حسبان لمخاطر صدمات تغير الفائدة وأسعار الصرف عند اقتراضها بالعملة الصعبة.
فوفقا لـ«أنكتاد» زادت الديون العامة من 35 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى للبلدان النامية فى عام 2010 حتى تجاوزت 60 فى المائة فى عام 2021، كما ارتفعت الديون الخارجية من أقل من 20 فى المائة إلى نحو 30 فى المائة خلال الفترة ذاتها. وجعل ذلك الدول المستدينة عرضة لمخاطر تقلبات أسعار الفائدة والتغيرات المفاجئة فى أسعار صرف العملات. ثم جاءت ردود أفعال البلدان المتقدمة فى تعاملها مع الجائحة، بين عامى 2020 و2022، بين تيسير نقدى مفرط وكأنها تسقط بنكنوت المطابع المتدفق من مروحيات دون حساب، ثم ترددت بنوكها المركزية فى احتواء آثارها التضخمية بعد حيرة منها فى طبيعة التضخم المتزايد: هل هو مؤقت زائل بطبيعته، أم يحتاج إلى تدخل صارم؟ فلما تبين لها أن التضخم من النوع الأخير سارعت بعد إبطاء مكلف فرفعت أسعار الفائدة فى وثبات متتالية. فارتبكت بذلك السياسات النقدية فى بلدان نامية بعد فترة اعترتها هى أيضا من الالتباس والشك حول توجهات أسعار الفائدة العالمية والصرف.
وألقت التغيرات المفاجئة فى الاقتصاد الدولى بأعبائها على أسواق المال والاستثمار؛ فأمست التدفقات المالية إلى الدول النامية والأسواق الناشئة بين تقلب وتراجع، ومد وجزر سريعين للأموال الساخنة والهائمة. وتعقدت عملية إدارة الديون وتمويل برامج النمو والتنمية. فكان من الواجب أن تتخذ الإدارة الاقتصادية التدابير اللازمة للتوقى من مخاطر الصدمات القصيرة الأجل، وبخاصة فى الدول ذات صافى أصول أجنبية منخفض، والتى تحسب ببساطة بخصم الديون الخارجية من رصيد الاحتياطى من النقد الأجنبى.
ونشارك رأى الاقتصادى المرموق بجامعة هارفارد، كينيث روجوف، المؤلف المشارك للمرجع المهم عن تاريخ الديون فى 8 قرون، أن عوامل الإبقاء على الارتفاع النسبى لأسعار الفائدة العالمية أكبر من تخفيضه للمستويات السابقة التى اعتادها العالم لسنوات فى أعقاب الأزمة المالية العالمية فى 2008. وحتى بعد تخفيضات قد تطرأ على أسعار الفائدة استجابة لمخاوف الركود فى الاقتصادات الكبرى أو لضغوط سياسية مصاحبة.
ومن العوامل المسببة للارتفاع: تضخم الديون، وارتفاع نفقات التسليح والدفاع وانعكاسات بعض سياسات التحول الأخضر، وسياسات الدعم، وانعكاسات ذلك كله على الموازنات العامة. وسيكون لذلك تأثيراته على الشركات المستدينة فى الدول المتقدمة وقطاعاتها العقارية التجارية التى ما زالت تراهن على انفراجة قد لا تتحقق فى أعقاب عام 2025.
ولهذا كله تداعيات على السياسات الاقتصادية فى عالم الجنوب، بعدما اشتعل التضخم فى كثير من أقطاره، ومنها من تراود صناع سياساته احتمالات العودة المبكرة للاقتراض الرخيص، وأن يسترد ما تطاير وتبخر من أموال هائمة وساخنة التى كانوا يعدونها خطأ من جملة الاستثمارات، وهى فى حقيقتها ديون قصيرة الأجل، فيثبتون بها أسعار الصرف افتعالا، ويتباهون باستقدامها كأنها من أمارات النجاح، حتى أتت ساعات الحساب العسير بتداعيات على الاستقرار الاقتصادى لا تلتئم إلا بعد إصلاحات مكلفة.
ويجدر بصناع القرار فى هذه البلدان أن يستأنسوا بأسس السياسة العامة للاقتصادى الهولندى جان تينبرجن، وهو من أوائل الحاصلين على «جائزة نوبل»؛ حيث فرق فى كتابه الشهير الصادر عام 1952 عن السياسة الاقتصادية، بين أهدافها وإجراءاتها. ووفقا لهذه الأسس فهناك فضل فى استهداف التضخم على استهداف سعر الصرف. وقد تحقق لكثير من البلدان النامية والمتقدمة مكاسب فى الاستقرار النقدى، ودفع الاستثمار ومن ثم النمو الاقتصادى المطرد، شرحها كاتب هذه السطور فى 2004 كإطار للسياسة النقدية، يتطلب فيما يتطلبه تنسيقا مؤسسيا بين السياسات المالية العامة والنقدية، واستقلالا للبنوك المركزية، وإحكاما فى زيادة عرض النقود، وكفاءة فى استخدام الإجراءات النقدية، بخاصة أسعار الفائدة، وانضباطا فى سوق النقد الأجنبى، وتواصلا مستمرا ومتقنا مع أطراف الاقتصاد، وتوضيحا لمستجداته مع عموم الناس. فإذا ما اكتسب إطار استهداف التضخم مصداقيته تتحقق أهداف الاستقرار النقدى، وتبدأ الاستثمارات والتحويلات فى التدفق، ويتيسر للمنتجين والمصدرين والمستوردين تسعير منتجاتهم وإدارة أنشطتهم ومخاطرها وعوائدها بكفاءة، بتجنيبهم التعرض لظروف اللايقين والغموض التى تقوض الثقة.
ومع ازدياد تقلبات أسعار الصرف العالمية، واتجاه أسعار الفائدة للاستمرار فى مستويات مرتفعة، تزداد الحاجة إلى تفعيل إطار استهداف التضخم الذى تبنته بلدان متقدمة ونامية مختلفة، فحقق لها ــ بعد عمل شاق سنوضحه فى مقال قادم ــ ما تطلعت إليه من استقرار فى عالم تتنازعه مسببات متنوعة للاضطرابات والأزمات.
التعليقات