الميليشيات وصناعة الآلهة - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الميليشيات وصناعة الآلهة

نشر فى : السبت 14 يناير 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 14 يناير 2023 - 8:25 م
جنحت للأفول شمس غاضبة هاربة من ضجيج المدينة، وصوت نفض الغبار من على الشباك مستمر بوتيرة واحدة. لا تعرف معاونة المنزل طريقة أخرى للتنظيف سوى «الهبد والرزع» بقطعة ثياب مهترئة تُزعج بها البشرية وتُعلن عن وجودها، وفى النهاية بالطبع تظل بعض الأتربة عالقة بضلفات الشيش الخشبى القديم. اليوم وقع هذه الضربات المتلاحقة مختلف، وسط حالة الهستيريا العامة التى نعيشها. تشعر أن حركات «الهبد والرزع» بدون فائدة تحاصرك فى كل الدوائر، وعلى رأسها شبكات التواصل الاجتماعى، الحلبة البديلة للتعبير عن الرأى فى ظل سدة سياسية عميقة. هذا فصيل يدافع عن روائى رفض جائزة أدبية، ويهاجمه آخرون، وهذا فصيل يؤيد «عبقرية» الكاتب أحمد خالد توفيق الذى رحل عن دنيانا منذ خمس سنوات وهو فى منتصف الخمسينيات، وآخر ينتقده وينعت أعماله «بالسطحية أو المسروقة أو المعربة»، وذاك فصيل ثالث يقدس الشيخ الشعراوى ويعتبره أيقونة غير قابلة للنقد، فى حين قرر البعض إخضاعه لمساءلة السوشيال ميديا بعد خمسة وعشرين عاما على وفاته، رافضين احتكاره للتفسير بحكم شعبيته وتأثيره على وعى ملايين الشعب المصرى الذين وضعوا صوره على خلفيات السيارات. اشتعلت الساحة بالمواجهات والتهديدات والشتائم أحيانا، واستعر صراع أيديولوجى استقطابى بحت، وكأننا أمام ميليشيات ثقافية وفرق «ألتراس».
• • •
لا يندرج الموضوع فى ظنى تحت باب الإلهاء المتعمد، لكننا أمام ظرف صعب وحالة من الهرجلة التى جعلت ردود الأفعال مبالغا فيها. صارت الأغلبية مثل معاونة المنزل التى تريد أن تظهر كما لو كانت ممسكة بزمام الأمور ولديها قدرة على السيطرة، لكنها فى الواقع تحدث ضجيجا كبيرا بلا طحن. أشخاص يُنَصبون آخرين كثوابت لا يجوز المساس بها أو تحليل خطابها، يصنعون آلهة، لأنها تبعث فيهم الطمأنينة فى وقت لا يكفون فيه عن النحيب والشكوى من غدر الزمان. علامات الاستفهام ملأت رءوسهم وزحمت عقولهم. هل ستهدأ الأحوال؟ هل ستفرض عليهم المزيد من الضرائب والرسوم والغرامات؟ هل سيكف التجار عن التلاعب بهم؟ كيف تتوزع الحظوظ وأى مصير ينتظرهم؟ هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ ذكريات طفولتهم تباع خردة وينطلقون من وداع لآخر، محاولين القبض على ما تبقى لهم من حياتهم كما عرفوها، لكنهم لا يعرفون العاقبة ويحتاجون لوجود من يعرف. يحتاجون لعارف بالله فسر آياته البينات بأسلوب سهل يفهمونه، أو لكاتب خلط الخيال العلمى بالفانتازيا والفلسفة ذات المسحة الدينية ومفاهيم التنمية البشرية فتنبأ يوما فى روايته «يوتوبيا» الصادرة عام 2008 أن أكل أرجل الدجاج سيكون دارجا، وكذلك الرءوس والأجنحة، موضحا: «حتى دجاجهم تحول فى ما يبدو إلى عظام يكسوها الجلد فقط، لا عضلات ولا أحشاء، أكوام من الثياب المتسخة المستعملة يباع بمائة جنيه للقطعة هناك من يقول إن الجنيه كان أعلى سعرا من الدولار يوما ما، لا أصدق هذا وقد صار الدولار يساوى 30 جنيها».
تعب الناس من الكلام وأضناهم القلق. العين بصيرة واليد قصيرة والقلب خائف. الكثيرون منهم لا يستطيعون التعمق فى النقاشات والقراءات فتهيمن عليهم السطحية والمبالغة فى إظهار العواطف. ليست لديهم القدرة على الإقناع فيشتبكون مع المختلفين معهم فى الرأى بغشامة. يُسلم البعض عقله لمن لديه جاذبية فكرية أو كلامية ويصطفون فى هيئة ميليشيات بحسب الأهل والعشيرة والميول والأهواء، وتتجلى أشكال اضطرابات الشخصية. ذُلوا بعد عزة ومستهم الحاجة، وحين يسرحون بأبصارهم فى السماء ينتظرون علامات تدعو للاطمئنان. الأزمات تجعلنا نقف فى مواجهة المجهول ونشعر بقلة الحيلة، حينئذ يزداد ولعنا بالأبطال الذين يفتحون لنا الطريق ونلتف حولهم مع من يشبهنا، وإذا لم يكونوا موجودين فسنخلقهم لأننا بحاجة إليهم كما فعلت كل الشعوب على مر العصور.
• • •
يظهر الأبطال الذين يتمتعون بالشجاعة والخيال اللازمين لمواجهة الأزمات فى أوقات الحروب والكوارث والأوبئة، وغالبا ما يختفون تلقائيا أو تنحسر عنهم الأضواء حين يكون كل شىء على ما يرام. على سبيل المثال لا الحصر عرف العالم أبطال أفلام الرسوم المتحركة الخارقين خلال أعوام الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الفائت، فكان الظهور الأول لسوبرمان سنة 1938، ثم تلاه باتمان بعدها بعام واحد، وبالطبع لم يحدث ذلك مصادفة، بل كان ردا من المبدعين على الفقر والبؤس الذى عم الولايات المتحدة الأمريكية، حاولوا أن يعطوا الناس أملا ويساعدونهم على الهروب من الواقع الأليم. تم أيضا ابتكار شخصية «كابتن أمريكا» سنة 1940، خلال الحرب العالمية الثانية، مرتديا علم البلاد لرفع معنويات الجنود على الجبهة، ومن بعده كان «آيرون مان» أو الرجل الحديدى و«فنتاستك فور» أو الأبطال الأربعة، خلال فترة الحرب الباردة لأغراض البروباجندا السياسية، فلكل أزمة أبطالها الذين يتجددون أو يتم بعثهم أحيانا من الرماد كما حدث أثناء الأزمة الاقتصادية المدوية عام 2008 أو كما نحن بصدده الآن، وهو ما يستدعى الدراسة والبحث من زوايا مختلفة دون «هبد ورزع»، حتى لا نظل نردد كلاما لا يصدقه إلا الحمقى والمغفلون.
التعليقات