أجمل ما تهديه هذه الرواية الممتعة إلى قارئها أنها تقدم مديحًا ذكيًا لفكرة الاختلاف، بطريقةٍ مختلفة وخلاّقة، تمزج بسلاسة بين الواقع والخيال، وتنقل حصاد الحياة كلها، بتفاهاتها، وبأسئلتها الوجودية الصعبة، وتستفيد من تفاصيل اليومى والعادى، فى عوالم جيل الألفية الثالثة، لتأخذنا إلى عالم آخر، أكثر سحرا وخيالا، وأكثر إثارة للدهشة والتأمل.
أتحدث عن رواية «ملحمة رأس الكلب»، لمؤلفها الشاعر والروائى محمد أبو زيد، والصادرة عن دار الشروق، بأجوائها التى تبدو بسيطة، فى استعادتها لأجواء السحر، والغرائبية، والعالم الموازى، الذى يذكرك على نحو ما بمغامرة «أليس فى بلاد العجائب»، ولكن هذا المزيج سرعان ما ينصهر فى سبيكة واحدة متماسكة، تعيدك من جديد إلى واقعنا الغريب، الذى لا يعترف بالاختلاف، والذى يهمش بل ويعاقب كل من يمتلك شكلًا أو جوهرا مختلفا، والذى يحتفى بالبشر كأرقام بلا هوية ولا بصمة.
لعبة السرد التى أجادها أبو زيد تبدأ من حدثٍ تافه بين صديقتين من جيل الإنترنت والسوشيال ميديا، هما «دو» و«لبنى»، أقل ما يقال عنهما إن كل واحدة فيهما حياتها محدودة، وهما وحيدتان رغم وجودهما فى قلب المدينة، ورغم اهتمامهما بتفاصيل زمنهما، وبينما تحب دو القرفة، فإن لبنى تحلم باقتناء سنجاب فى بيتها، وعندما تذهب مع صديقتها دو إلى محل لاقتناء السنجاب فى وسط البلد، يجدان صاحب المحل برأس كلب، حقيقة لا مجازًا، وستغيّر علاقتهما برأس الكلب، المختلف عن الجميع، حياتهما إلى الأبد!
توظّف الرواية فكرة «التحول» أو المسخ فى اتجاه آخر، بالطبع يتضايق الشاب رأس الكلب من مظهره، ومن تنمّر الناس عليه، ويضطر إلى أن يخفى وجهه، ولكن دو تعشقه وترى فيه فارس أحلامها، وتريد أن تحقق ما هو أبعد، بأن تعيد إليه وجهه القديم وأن تنقذه من الشيخوخة والتقدم فى العمر، ذلك أن الكلاب أقصر عمرًا من البشر، ولن تجد أمامها إلا لبنى صديقتها الوحيدة المهتمة بالسحر، لكى تساعدها فى إنقاذ رأس الكلب.
تبدو مهارة السرد فى الانتقال من الواقع إلى السحر، وبالعكس، وفى استعادة شكل وروح الحدوتة، وفى التأسيس الجيد لعلاقة دو ولبنى بالسحر، وبحب المغامرة وفى ابتكار عوالم موازية، تنتقل إليها الشخصيات فعليًّا، والحقيقة أنهم فى عوالم موازية واقعية أيضًا، بمعنى أن كلًّا من دو ولبنى ورأس الكلب، لهم عوالمهم الخاصة، حتى قبل أن تجمعهم المغامرة الساحرة.
وبينما يتم تقديم تفاصيل الواقع المعاصر، زمانًا ومكانًا وغناء ومأكلًا وملبسًا، وتحضر شوارع وسط البلد، وممراتها، فإن أبواب الخيال تنفتح أيضًا على جزيرة التائهين والمنبوذين لاختلافهم عن الآخرين، وتأخذ رأس الكلب إلى اكتشاف معنى الرضا، والتكيف مع الاختبار، ومثل الحكايات الشهيرة فإن بين الخيال والواقع بابا صغيرا، يحتاج فقط أن تدفعه لكى ترى العالم الموازى، ثم تعود من جديد.
استلهام حكاية الطفل، وخيال الحواديت، وقصص تحولات الجسد، وربما أيضًا عوالم السحر، يتم هنا بمستوياتٍ فائقة الوعى والذكاء، ويأخذنا بصنعة فن إلى أسئلة محيرة، فما معنى أن يقوم شاب بتركيب لمبة حجرته فيتحول وجهه إلى كلب؟ ما معنى هذا القدر الغريب؟ ولماذا هو بالذات؟ ولماذا يكون كلبا وليس شيئا آخر؟ كيف يتحمل الإنسان قدره بينما لا يطيقه الآخرون؟
تقودنا الحكاية إلى علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر، ليس فقط فيما يتعلق برأس الكلب، ولكن مع شخصيتين تائهتين مثل دو ولبنى، تعيشان بدون نجاح فى الحب، وفى وحدة رغم الحضور الصاخب، وبقدرات داخلية دفينة، تريد أن تعبر عن نفسها، ولا تعرفان الطريق، طاقة هائلة تخرج فى الأمور البسيطة والتافهة، ولكنهما لا تعرفان الآخر، ولا تتغيران إلا بمغامرة كبرى مع رأس الكلب.
لا يريد أبو زيد أن يقدم فانتازيا كاملة، ولذلك يحرص على أن يؤسس العالم السحرى فى الرواية على عناصر واقعية، يتم ذلك من خلال جدّة لبنى، وجد رأس الكلب، الاثنان ارتبطا بالسحر، والاثنان شخصيتان تكتنفهما الغرابة والغموض، ومن المحتمل أن تكون أعمالهما السحرية قد انتقلت إلى حياة الأحفاد، بل إن روح جدة لبنى، تعود فى شكل قطة.
هدف هذا التأسيس ألا ينفصل القارئ عن الواقع تمامًا، لأن الحكاية عن تهميش المختلفين فى واقعنا المعاصر، هنا والآن، عبر مغامرة سحرية، تخرج عن المألوف، لتعيدنا مرة أخرى إلى الواقع، ولعل هذا هو سبب العودة فى آخر الرواية إلى الواقع، ومحو حارة السماء، ولكن بعد تقبّل لبنى ودو لفكرة الاختلاف، حول القرفة، وحول السناجب.
هذه هى اللعبة ببساطة: مغامرة لكى نرى أنفسنا والعالم بشكل أوضح، وسحر فى الشخصيات وخيالها، قبل أن يكون فى الواقع، وتعميق للحواديت، لاكتشاف ما وراءها، ورحلة لاكتشاف السحر فى الإنسان المختلف، قبل اكتشاف السحر فى الحكايات.
يبدو لى فى النهاية أنها أيضًا أمثولة، أو رحلة رمزية، تعيد الإنسان إلى طفولته البسيطة، لكى يكتشف الحياة بلا أقنعة، فاليوتوبيا فى الرواية ليست هى الحياة المثالية، ولكنها الحياة بلا أقنعة، وبدون تزييف، الخير والشر واضحان، والكل يتقبّل الكلّ، والاختلاف هو شرط الإنسانية، وليس هو الاستثناء، والطبيعة والحيوانات امتداد للحياة الإنسانية، ومرايا تنعكس عليها النفوس والقلوب والعقول.
يمكن أن تقرأ المغامرة أيضًا بأنها رحلة من السطح إلى العمق، من العادى والمألوف إلى المدهش، من الوقوف على شاطئ الحياة، إلى اختبارها فى العمق، ومن المرور العابر، إلى التوقف والتأمل، وهى كذلك دعوة لاكتشاف السحر فى الحياة، فى التجربة، وفى الإنسانية، قبل استدعائها بالتعاويذ، وبعبارات الهابراكادربا، والهاكونا ماتاتا، وافتح يا سمسم.
الحب وقبول الآخر هما المفتاح، لا نجاة إلا بهما، ومثلما تتكرر أغنية «الكل يعرف» على مدار فصول الرواية، فإننا سنعرف بوضوح أن السحر الحقيقى فى قدرة الإنسان على تقبّل غيره، وعلى مواجهة التجارب، وعلى أن يكون نفسه، لا أن يكون فردا فى القطيع.