المرحلة الثانية من الثورة العربية - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 17 أبريل 2024 1:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المرحلة الثانية من الثورة العربية

نشر فى : الإثنين 14 نوفمبر 2011 - 8:55 ص | آخر تحديث : الإثنين 14 نوفمبر 2011 - 8:55 ص

تغلى مجتمعات عديدة فى العالم بالغضب. بعضها لم يعد يتحمل فأعلن الثورة وبعض آخر يستعد لها وبعض ثالث يراقب أو يترقب. ويذهب رأى عدد كبير من المحللين إلى أن العالم يمر فى أزمة، وأن هذه أزمة ممتدة، وإن اختلفوا على ما إذا كانت الأزمة فى الرأسمالية وحدها أم أنها أيضا فى الديمقراطية.

 

سمعت من يقولون إن الثورة فى مصر نشبت لأسباب لا علاقة لها بالنظام الاقتصادى السائد قبل يناير، بدليل أنه مازال يسود، وبدليل أن أغلب الناشطين والثوار لا ينبهون إلى نقائصه ولعل بعضهم لم ينتبه إليها. نشبت الثورة، فى رأى هؤلاء، لدوافع تتعلق بافتقار شعب مصر إلى الديمقراطية أو افتقاده الشديد لها. والرد عليهم جاهز وكثير التردد، وتلخصه عبارة أن الغالبية العظمى من المواطنين المصريين لم يمارسوا الديمقراطية ومن مارسها منهم يكاد لتقدمه فى العمر لا يذكرها فكيف بهم يفتقدون شيئا لا يعرفونه ويهبون فجأة للمطالبة به. بينما لا يستطيع أحد إنكار أن هذه الغالبية العظمى يوجد بينها من يفتقد التفاؤل ومن عاش عمره ينتظر عائد التنمية ليكتشف أنه كان ينهب أولا بأول. من هذه الأغلبية أيضا من أدرك أن أولاده لن يحظوا بحياة أفضل من حياته فاغترب فترات طويلة وعاد ليجد أولاده فى الشارع أو تلقفتهم أيادى الفساد.

 

وعلى كل حال، وأيا كانت دوافع الثورة، لن نختلف على أنها فشلت خلال مرحلتها الأولى، أى خلال شهورها التسعة أو بعدها أن تنجب «كائنا» سياسيا أو اقتصاديا يستحق ما بذل فى إنجابه من تضحيات فى الأرواح والممتلكات والثروة الوطنية. وأخشى أننا لن نختلف على أن كثيرين صار يغلب عليهم الشك فى أنه سيخرج من رحم هذه الثورة كائنا يحمل ملامح ديمقراطية نقية.

 

•••

 

كان النقص فى الديمقراطية دافعا للثورة، ولكن لم يكن الدافع الوحيد، وما كان يمكن أن يكون وحيدا بينما تتعدد النقائص فى النظام الاقتصادى. لا حاجة بنا إلى إحصاءات أو انتماءات أيديولوجية لندرك أن النظام الاقتصادى، الذى ساد فى مصر قبل خلع مبارك ولايزال سائدا، مخصص فى توجهاته الأساسية لخدمة مصالح أقلية بسيطة فى المجتمع المصرى. ومن أجل مصالح هذه الأقلية صدرت تشريعات وجندت قوى أمنية ضخمة وشيدت مرافق. ولصيانة هذه الإنجازات جميعا أقيم نظام سياسى بمواصفات معينة.

 

حدث هذا بينما كان القطاع الموازى فى الاقتصاد المصرى ينمو خارج إطار الشرعية ليخدم الأغلبية ويثير بتجاوزاته واشتقاقاته الاجتماعية والأخلاقية والدينية الغضب والفوضى فى المجتمع ويؤجج نيران الثورة فى نفوس المواطنين.. والمعروف أنه فى مجتمع يخضع للاقتصاد الموازى، أى يخضع لاقتصاد خارج الشرعية وإن بمباركتها، غالبا ما يقتنع الناس بأن السياسيين لا يمثلونهم، وإنما يعملون لحساب نظام اقتصادى من صنع مؤسسات دولية ومستشارين أجانب وعائلات أو جماعات بعينها.

 هنا أتفق مع رأى الكاتب المعروف هرناندو دى سوتو الذى درس حالات الربيع العربى ووجد أن الثورات العربية نشبت لأن أغلبية الشعوب العربية كانت تعيش خارج إطار النظام الاقتصادى الشرعى، وأن هذه الشعوب أدركت بالممارسة أن الطبقة السياسية فى بلادها لا تمثل الجماهير ولا تعمل لخدمتها فثارت ضدها بهدف خلعها.

 

•••

 

حديث الساعة فى أوروبا وأمريكا هو الثورة التى تتصاعد فى معظم دولها ضد الطبقة المالية، الطبقة التى تسببت فى انهيارات هائلة فى اقتصادات الدول الرأسمالية. هناك فى الغرب من يقول إن الثوار، وأن رفض أغلبهم شرف اللقب، يصبون غضبهم على رجال المصارف والبنوك، بينما هدف ثورتهم الحقيقى هو الطبقة السياسية التى تخدم مصالح الشركات العظمى والمصارف الكبرى. تابعنا لسنوات عديدة، وتخصص كثير من مفكرينا فى دراسة، معاناة طبقة العمال فى الغرب وفئات الشباب وعائلات الطبقة الوسطى كنتيجة مباشرة لانسياق الطبقة السياسية وراء خطط العولمة. وقد أثمرت هذه المعاناة إدراكا عميقا لدى قطاعات مهمة بأن السياسيين لم يعودوا صالحين لأداء مهمة تحقيق رفاهة الغالبية العظمى من المواطنين وحمايتهم من غلواء ظروف غير متوقعة ومخاطر غير آمنة ومستقبل غير مضمون، وكلها كانت من أهم إفرازات العولمة.

 

لا يوجد من ينكر أن الشعوب انبهرت ببدايات العولمة تحت تأثير حملات إعلامية مكثفة وتدفقات مالية هائلة وعروض قرض ميسرة، مما جعل كثيرا من الناس الذين يعتمدون فى معيشتهم على دخول ثابتة يقبلون على بطاقات الائتمان ينفقون منها بلا حدود ولا يلتزمون بأحد تقاليد الرأسمالية الأصيلة، وهى أن لا يتجاوز الإنفاق حدود الدخل. فشلت الطبقة السياسية الحاكمة فى حماية المواطنين من أخطار العولمة، وفشلت فى طمأنتهم على مستقبلهم، وفشلت فى تطوير إمكاناتها ودعم نفوذها لتواجه نفوذ الشركات العظمى ورجال المال. فشلت أيضا فى نواحى أخرى نعرف الآن أنها كانت لا تقل أهمية.

 

•••

 

يقولون فى إسبانيا، على سبيل المثال، إن السياسيين الإسبان لم يطوروا أنفسهم، ولم يغيروا طباعهم ولم يستفيدوا شيئا من التغيرات التى تجرى من حولهم، أو لعلهم لم يدركوا أهمية وخطورة التطورات الاقتصادية والاجتماعية فى العالم الخارجى. استمعت فى مدريد، قبل ثلاثة أعوام، إلى أحد الزعماء السياسيين ممن شاركوا فى إطلاق عملية التحول التى بدأت فى أواخر عهد الجنرال فرانكو. كان يتحدث عن الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية ويعترف بأن التجربة خرجت عن مسارها حين احتكر السياسيون الشبان الذين قادوها العمل السياسى. أنظر إلى قائمة رؤساء الوزارة الذين تولوا قيادة حكومات الانتقال، لن تجد أحدا منهم تجاوز الأربعينيات عند توليه الحكم. أدولفو سواريس كان فى الثالثة والأربعين وفيليب جونزاليس فى الأربعين وخوسيه إثنار فى الثالثة والأربعين، وجميعهم مازالوا يحتكرون الساحة السياسية رغم تقدمهم فى العمر.

 

نجحت تجربة الانتقال فى انطلاقتها وتحسنت فى عهودهم الأولى أحوال إسبانيا الاقتصادية، ولم تبدأ إسبانيا الانحدار إلا عندما فقد هؤلاء الزعماء حس التغيير وتركوا وطنهم يخضع لضغوط العولمة. فشلت الطبقة السياسية التى أنجبتها حركة التغيير فى أهم مهامها وهى تقديم الحماية للغالبية العظمى من الشعب الإسبانى ضد غوائل العولمة وشرورها. اهتمت بالجانب الديمقراطى فى مسيرة الانتقال وتركت جانبيها الاقتصادى والاجتماعى تحت رحمة السوق. كسبت تداول السلطة والنفوذ وخسرت الاستقرار الاجتماعى فى مجتمع أكثر من ربع شبانه الآن عاطلون عن العمل.

 

فى مواجهة تضخم عجز الموازنة وارتفاع نسبة الدين العام إلى الدخل وتحت ضغوط دولية وأوروبية تحركت النخب الحاكمة فى معظم الدول الرأسمالية فى اتجاه حماية الطبقة المالية والمصالح المرتبطة بالعولمة وأقرت خططا للتقشف. وهى الخطط التى تعنى ببساطة تحميل الطبقات الفقيرة عبء تسديد العجز المالى بدلا من زيادة الضرائب على الأغنياء المستفيدين من عولمة الأسواق. أبلغ دليل على مسئولية السياسيين الغربيين عن تدهور أزمة الرأسمالية ظهر فى تردى مستوى السلوك السياسى لزعماء مثل باراك أوباما وسيلفيو برلسكونى ونيكولاى ساركوزى واللورد كاميرون وبعض قادة العالم العربى والغالبية العظمى من القادة الأفارقة.

 

حالتنا وحالة اليونان تقدمان التعبير الأوضح لحقيقة أن الأزمة العالمية اقتصادية وسياسية فى آن واحد، وأن المسئولية مشتركة بين السياسيين وطبقة رجال المال وشريحة من رجال الأعمال.

 

يقول ميشا جلينى الكاتب بالفاينانشيال تايمز أن وزر سقوط باباندريو يقع على عاتق شبكة من عائلات تتحكم فى جانب كبير من قطاع الأعمال وقطاع المال والإعلام وفى النهاية فى الطبقة السياسية. ويشهد الكاتب على أن باباندريو حاول الضغط على المتهربين من دفع الضرائب من أعمال هذه الشبكة ووقف نشاط جماعات تهريب الوقود والمخدرات عبر دول البلقان ورفع مستوى الخطاب الأيديولوجى الاشتراكى. وقد ردت العائلات على هذه الجهود وغيرها بشراء ذمم وزراء فى الحكومة وبتهريب أموالها إلى الخارج. هربت أموالها ولم تهرب. قبعت فى انتظار نجاح الضغوط الخارجية على حكومة اليونان للإسراع فى بيع أصول الدولة وشركات القطاع العام، وهى الأصول التى تتوقع هذه العائلات والمصالح الأجنبية هبوط أسعار أسهمها عند البيع كما حدث مع أسهم شركات الاتصالات التى اشترتها شركة ألمانية بسعر تافه، وتماما كما حدث فى عمليات بيع شركات القطاع العام المصرية. صدق من أطلق على الحالة اليونانية الراهنة تعبير المأساة الإغريقية الجديدة، ومن أطلق على الحالة الإيطالية المأساة الرومانية المعاصرة، ومأساتنا المصرية ليست غريبة على هذا النمط من أنماط السقوط.. تشابهت المآسى حتى فى التفاصيل.

 

•••

 

سبقت الثورة الاجتماعية فى الغرب ثورته السياسية بينما سبقت ثورات الربيع العربى السياسية ثوراته الاجتماعية. وأظن أنه كما كان للربيع العربى دورلا يمكن إنكاره فى تعبئة مشاعر الاحتجاج فى الولايات المتحدة وإسبانيا واليونان وايطاليا، سيكون لثورات أوروبا وأمريكا ضد قوى الجشع المالى وتوحش الرأسمالية دور فى استعجال نشوب المرحلة الثانية من مراحل الثورة العربية وهى مرحلة الثورة الاجتماعية العربية ضد القوى نفسها والطبقة السياسية المتحالفة معها أو العاملة فى خدمتها. هذه الثورة الجديدة هى التى ستفرز قوى سياسية جديدة تقيم العدل وتضمن الرخاء والرعاية لأغلبية المواطنين.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي