فى تهافت مقولة المواءمة الدستورية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 5:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى تهافت مقولة المواءمة الدستورية

نشر فى : السبت 14 ديسمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 14 ديسمبر 2013 - 8:00 ص

بعض المجموعات السياسية والحزبية والشخصيات العامة الرافعة ليافطة الديمقراطية والمؤيدة للنص الدستورى المنبثق عن لجنة الخمسين المعينة، وهى مجموعات تشغل اليوم خانات متعددة تتفاوت من المشاركة المباشرة فى ترتيبات ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣، مرورا بالتحالف غير المباشر مع الحكم ومركزه المتمثل فى المكون العسكرى الأمنى إن اقتناعا بأنه طوق نجاة الوطن من أزمته الراهنة أو خوفا من غياب البديل وصولا إلى إدعاء الحديث باسم الثورة والطلب الشعبى للتغيير والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات، تسعى للترويج للمشاركة فى الاستفتاء المقبل ودعوة المواطن إلى التصويت بنعم موظفة لمقولة أحادية بالغة التهافت، المواءمة الدستورية.

على خلاف أبواق المكون العسكرى الأمنى غير المعنية بالديمقراطية والمبررة للمواد الدستورية وللقوانين وللممارسات القمعية، على خلاف طيور ظلام المرحلة والمتورطين فى تشويه وعى الناس عبر فاشية الإقصاء والعقاب الجماعى وخطابات الكراهية ونشر الخوف، ليس بإمكان المجموعات الرافعة ليافطة الديمقراطية تأييد النص الدستورى ٢٠١٣ دون «تعامل ما» مع مواده القمعية التى تزج بالمدنيين إلى المحاكمات العسكرية وتعصف بضمانات حقوقهم بإلغاء الحدود الزمنية القصوى للحبس الاحتياطى وتنتهك حرياتهم بتقييد حرية ممارسة الشعائر الدينية والتى سبق لهم الاعتراض الصريح عليها حين حملتها نصوص دستور ٢٠١٢. ليس بإمكانهم تأييد النص الدستورى ٢٠١٣ دون «تفسير ما» لبنيانه السلطوى الذى يضع المؤسسة العسكرية كدولة فوق الدولة ويضعف البرلمان بنزع صلاحياته ويقضى على استقلالية الأجهزة الرقابية باستتباعها عملا للسلطة التنفيذية ويتجاهل اعتماد منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وللمحاسبة على انتهاكات الحقوق والحريات منذ ١٩٨١ ولوقف إفلات المتورطين المستمر إلى اليوم.

•••

على صعيد آخر، ليس بإمكان هذه المجموعات أيضا، والكثير منها شارك فى استدعاء المؤسسة العسكرية إلى التدخل فى السياسة قبل ٣ يوليو ٢٠١٣، وجميعها أيد الترتيبات التى تلته، وشارك بها وهلل لتشكيل لجنة الخمسين المعينة ودفع بممثليه إليها وجميعها صمت ولفترة ليست بالقصيرة على انتهاكات الحقوق والحريات والقمع الأمنى والاستخدام المفرط للقوة، أن تذهب اليوم وبعد أن خرج النص الدستورى عن لجنة الخمسين واتضحت طبيعته غير الديمقراطية باتجاه رفضه ومن ثم دعوة المواطن إلى التصويت فى الاستفتاء بلا أو إلى المقاطعة. ليس بإمكانها العودة إلى الموقف المبدئى المتمثل فى معارضة تدخل المؤسسة العسكرية فى السياسة والانقلاب على الإجراءات الديمقراطية الذى جاء به ومن ثم نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن نص دستورى يؤسس لاستمرار القمع وانتهاكات الحقوق والحريات ويذهب بالفرص الفعلية للتحول الديمقراطى. ليس بإمكان هذه المجموعات الرفض الآن لأنها طرف أصيل فى الترتيبات الراهنة وتتحمل، وإن ضعف نفوذها مقارنة بالمكون العسكرى الأمنى، أمام الوطن وضميره الجمعى مسئوليتها ومسئولية الترويج لها. ليس بإمكانها الرفض لأن الكثير منها تورط فى رمى الأصوات القليلة الرافضة منذ ٣ يوليو ٢٠١٣ (وأتشرف أن أكون من بينها) إما بالتحالف غير المعلن مع الإخوان أو بجرائم العمالة والخيانة والتآمر على الوطن ومصالحه واستقراره (ذات الاتهامات الزائفة التى وجهها لنا الإخوان وحلفائهم فى اليمين الدينى قبل الاستفتاء على دستور ٢٠١٢) أو بالمثالية الشديدة التى «لا تدرك طبيعة الأوضاع المصرية وتعقدها على مستويى الدولة والمجتمع».

•••

وللخروج من المأزق المزدوج وفى مسعى للتمايز عن أبواق المكون العسكرى الأمنى وطيور ظلام المرحلة ولإنقاذ شىء من مصداقية رفعها ليافطة الديمقراطية دون ابتعاد عن التأييد الصريح للترتيبات الراهنة وللنص الدستورى المنبثق عن لجنة الخمسين، توظف هذه المجموعات السياسية والحزبية والشخصيات العامة مقولة المواءمة الدستورية وذلك بمضامين ثلاثة رئيسية سماتها إما الزيف أو الاجتزاء أو التحايل.

المضمون الأول هو تبرير المواد القمعية والبنيان السلطوى للنص الدستورى ٢٠١٣ باعتبار ذلك ترجمة لمعادلات القوة السياسية والمجتمعية فى مصر والتى يهيمن عليها المكون العسكرى الأمنى وشبكات المصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة معه ولا تشغل بها القوى الليبرالية واليسارية والقومية سوى مواقع هامشية وتحضر بها تيارات اليمين الدينى إما كعدو يقصى ويواجه ويطارد (الإخوان) أو كطرف ضعيف يقبل التنازل عن كل ما أصر عليه، وأهدر من خلاله (جزئيا على الأقل) فرص التوافق المجتمعى بشأن دستور ٢٠١٢ (حزب النور السلفي). هنا تصبح المواءمة الدستورية فعل اعتراف بمعادلات القوة وقبول لنتائجها المتمثلة فى إقرار وضعية المؤسسة العسكرية كدولة فوق الدولة واستمرار محاكمة المدنيين عسكريا وغياب العدالة الانتقالية وإصلاح الأجهزة الأمنية كحتمية واقعية لا تفضلها المجموعات الرافعة ليافطة الديمقراطية إلا أن الفكاك منها يستحيل.

ومصدر الزيف فى مضمون المواءمة الدستورية الأول هذا هو أن مصر قامت بها ثورة عظيمة فى يناير ٢٠١١ طالبت بالديمقراطية وبتغيير معادلات القوة السياسية والمجتمعية التى رسخت لدولة ظلم ولمجتمع غاب عنه العدل، ولا يحق للمجموعات التى ترفع يافطة الديمقراطية أن تشارك فى كتابة نص دستورى لا يترجم الرغبة الشعبية فى تغيير معادلات القوة ويفتح أبواب الدولة والمجتمع أمام مفاعيلها أو تبرر لإعادة الإنتاج الدستورى لمرتكزات نظام سلطوى خرج الناس ضده وثاروا ولم يأتِ المكون العسكرى الأمنى الذى هيمن عليه منذ خمسينيات القرن الماضى لا بالتقدم ولا الاستقرار ولا الرخاء ولا الأمن وغيرها من مفردات يشوه بها الوعى العام ويحشد بها للموافقة على النص الدستورى ٢٠١٣.

•••

أما المضمون الثانى للمواءمة الدستورية فيرتبط بتبرير المواد القمعية والبنيان السلطوى لنص ٢٠١٣ بادعاء أن عملية كتابة الدساتير دوما ما تفرز من النصوص أو الوثائق ما لا يرضى جميع القوى والأطراف السياسية والمجتمعية والمؤسسية أو لا يرضيها تماما، وأن الرشادة والعقلانية يلزمان القوى والأطراف هذه اليوم فى مصر بقبول النص الدستورى ٢٠١٣ على نواقصه «كحصاد مواءمات ومساومات وتوافقات» لا تملك رفضها، وإلا فليبحث «الرافضون» عن جزر معزولة يحيون عليها فى مجموعات متجانسة ويصيغون بها دساتيرهم خالصة النقاء.

ومصدر الاجتزاء فى مضمون المواءمة الدستورية الثانى هذا هو أن عملية كتابة الدساتير فى الدول والمجتمعات التى شهدت ثورات ديمقراطية أو انتفاضات شعبية على نظم شمولية أو سلطوية أو نظم مسخ يتعين أن تهدف إلى صياغة بناء جديد للدولة وللمجتمع يقر مبادئ الديمقراطية وقيمها ولا ينقلب عليها وينفتح بواقعية على «مواءمات ومساومات وتوافقات» جزئية تضمن القبول التدريجى لجميع القوى والأطراف السياسية والمجتمعية والمؤسسية وتباعد بينها وبين التآمر لإسقاط التجربة الديمقراطية. الاجتزاء، إذن، يأتى عبر غياب التمييز بين المستوى الكلى ــ بناء جديد للدولة وللمجتمع ــ الذى لا يمكن المساومة عليه بعد الثورات والانتفاضات وبين مستوى الجزئيات الذى يصنع مساحات وفرص لبحث وتفاوض القوى والأطراف والمؤسسات المختلفة بشأن طبيعة وحدود امتيازات مؤقتة أو أحكام انتقالية غير ديمقراطية الجوهر قد تضمن لها أو لبعضها فى سياق بناء توافق شامل يلزمها بقبول مبادئ وقيم الديمقراطية ويرتب ادارة التحول باتجاهها بكفاءة ودون انتكاسات كبرى.

بمثل هذا التمييز بين المستويين الكلى والجزئى دفع بالتحول الديمقراطى إلى الأمام فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، فصيغت نصوص ووثائق دستورية تقدمية وقدمت امتيازات جزئية وموقتة للمؤسسات العسكرية أو للنخب الحكم القديمة أو للرؤساء السابقين أبدا لم تعنى اغتيال الديمقراطية أو إعادة إنتاج النظم القديمة أو دعوة الديمقراطيين إلى البحث عن جزر معزولة.

•••

يتعلق المضمون الثالث للمواءمة الدستورية التى تطرحها المجموعات السياسية والحزبية والشخصيات العامة الرافعة ليافطة الديمقراطية والمؤيدة لترتيبات ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ وللنص الدستورى بدعوة المواطنات والمواطنين إلى الموافقة عليه والتغاضى عن المواد القمعية والبنيان السلطوى التى يحتويها والسعى لتمرير ذلك بالتأكيد على أن نص ٢٠١٣ لن يعيش طويلا وسيتغير قريبا وأن بعض مواده وصياغاته تحقق تقدما فى مجال الحقوق والحريات وأن مواده القمعية يمكن تغييرها عبر الآلية البرلمانية وأن الظرف الاستثنائى الذى تمر به مصر ستتجاوزه بعد تمرير الدستور وبه سيتحقق الاستقرار.

ومصدر التحايل فى مضمون المواءمة الدستورية الثالث هذا هو أن ذات المجموعات السياسية والحزبية والشخصيات العامة أصرت على ضرورة الوصول إلى دستور ديمقراطى وتوافقى فى ٢٠١٢ ولم تقبل آنذاك التقرير المسبق بـ«عمره القصير» الذى دفع به اليمين الدينى، تماما كما رفضت التعاطى مع دستور ٢٠١٢ على طريقة «بيعه وشروه» أو «المواد الجيدة فى مقابل المواد السيئة وعليك القبول أيها المواطن» واعتبرت أن مادة دستورية قمعية واحدة كافية لإسقاط شرعية الدستور وتلزم بالنضال ضد تمريره. مثل هذه المعايير المبدئية، والتى طبقت على دستور ٢٠١٢ ودفعت القوى والأطراف الديمقراطية إلى رفضه وامتدت أيضا إلى رفض التشكيل غير المتوازن لهيئة وضع الدستور وغياب الشفافية والحوار المجتمعى، تتحايل عليها اليوم المجموعات المشار إليها بل وتتورط فى الترويج لتحايلها كمواءمة دستورية ستجلب الاستقرار (تذكر بالدستور العجلة تدور). ولأن الأصوات القليلة التى ترى فى الديمقراطية أكثر من يافطة أو كلمات للحصول على مصداقية زائفة تطبق معايير رفض دستور ٢٠١٢ على النص الدستورى ٢٠١٣ وترفضه من ثم بنفس المبدئية بينما تتحايل المجموعات الأعلى صوتا والأوفر تأثيرا، نتحول نحن إما إلى متآمرين أشرار أو إلى مثاليين صغار لا نفهم الواقع المركب وأجدر بنا البحث عن جزرهم المعزولة.

تهافت مقولة المواءمة الدستورية بين وكذلك زيفها واجتزاؤها وتحايلها، عل قومى يفهمون.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات