انتهى منذ أيام معرض القاهرة الدولي للكتاب وهو من أحب الأحداث إلى قلبي وأحاول حضوره كلما تصادف وجودي في القاهرة في فترة انعقاده. ومن حسن حظي نجحت في حضوره هذا العام والعام السابق وأردت استعراض بعض الأفكار التي تأتيني كلما زرت هذا المعرض كما فعلت في مقال العام الماضي.
لاحظت أن معرض الكتاب قد يكون من الوسائل التي تتعرف بها على التغيرات التي طرأت على اهتماماتك، فمثلاً: ما هي الكتب التي تبحث عنها؟ ولماذا؟ ما هي الكتب التي إشتريتها بينما لم تكن في قائمتك الأصلية؟ ماهي الكتب التي إشتريتها العام الماضي ولم تقرأها لتغير موقفك نحو موضوعها؟ ولماذا تغير موقفك نحو موضوع ما؟ لا يجب أن تحزن لأنك إشتريت كتباً ولم تقرأها فقد يكون ذلك بسبب ضيق الوقت أو فقدانك اهتمامك بالموضوع أو أنك مهتم بالموضوع ولكن الكتاب لم يكن على المستوى المتوقع كما أنه ليس من الضروري أن تقرأ كل كتاب تشتريه من الغلاف للغلاف، الكتاب قد يكون مرجعاً تعود إليه عند الحاجة إلى معلومة معينة أو قد يعالج الكتاب موضوعاً ما بطريقة جديدة في أحد فصوله وأنت تستهدف فقط ما جاء في هذا الفصل، شراء الكتب دائماً مفيد فلا تحزن فقد يتجدد إهتمامك بموضوع ما فتجد كتباً عند قد إشتريتها ونسيتها فيتجدد إهتمامك بها.
معرض الكتاب أيضاً وسيلة لمعرفة المجتمع، كنت قد طالعت سنة 2010 تقريراً أصدره مركز المعلومات ودعم إتخاذ القرار بمجلس الوزراء بعنوان "ماذا يقرأ المصريون؟"، لا أعرف مدى دقة الأرقام في التقرير ولكنه على كل حال يناقش بعض النقاط الهامة مثل: مناخ القراءة في مصر من حيث عدد دور النشر والصحف والمجلات والمراكز مثل دار الكتب والوثائق القومية وأعداد المكتبات [AB1] كما يستعرض تحليلا للسكان من حيث المراحل العمرية والشهادات العلمية ومدى إقبال كل مرحلة عمرية على قراءة النوعيات المختلفة من الكتب والصحف والمجلات، هذه معلومات قيمة ولكن الآن وبعد مرور عقد من الزمان على هذا التقرير ومع التطور والسرعة وتوافر تقنيات تحليل البيانات بدقة نحتاج تلك التقارير بصور دورية ومعرض الكتاب مصدر رائع لتلك المعلومات، فمثلاً: كم عدد زوار المعرض؟ ماهي المراحل العمرية للزوار؟ ما هي كميات الكتب المباعة؟ ما هي كميات الكتب المباعة من كل نوع (الأدب بأنواعه وكتب تاريخية وسياسية وعلمية وغيرها... )؟ تحليل تلك المعلومات يعكس صورة أقرب للحقيقة عن درجة الوعي الثقافي عند الناس و معرفة ذلك تتيح لنا البدء في النهوض بهذا الوعي عن طريق عقد ندوات ومؤتمرات ونشر كتب في موضوعات معينة تأخذ القارئ من النقطة التي وصل إليها وإلى درجة أعلى من الوعي الثقافي وهناك أساليب لتحقيق ذلك ممكن استعراضها في وقت لاحق ولكن لنعطي فكرة سريعة الآن: جمع البيانات والإحصاءات من معرض الكتاب يساعد دور النشر في معرفة الذائقة العامة للقراء ومعرفة المرحلة العمرية التي تقرأ أكثر من غيرها ونوعية الكتب التي تقرأها تلك المرحلة العمرية وذلك يساعد تلك الدور على إتخاذ القرارات المتعلقة بنوعية الكتب التي تنشرها، وتجميع بيانات معرض الكتاب (أو حركة النشر والقراءة عامة) عبر السنين وتحليلها يساعد على معرفة العوامل التي تجعل إهتمامات القراء تتغير وهذا يساعد على توجيه إهتمامات الناس إلى ما فيه النفع أو خلق استراتيجيات تساعد على زيادة عدد القراء ودرجة وعمق الوعي الثقافي، ولنا مقال مستقل عن ذلك قريباً إن شاء الله.
في هذا العام وجدت كتباً كثيرة عن ثورة 1919، بمناسبة مئوية الثورة ولكن على العموم القراءات التاريخية مهمة، طبعاً كان الإقبال الأكبر على الروايات بأنواعها و ذلك مفهوما ومتوقعا لأن الروايات مسلية وسهلة الهضم وهي أيضا النوع الأسهل لمن يبدأ القراءة أو لمن لا يقرأ كثيرا، لكن السؤال: متى ينتقل القارئ من قراءة الروايات فقط إلى ما هو أكثر دسامة مع عدم ترك الاستمتاع بالأعمال الروائية طبعا؟ يجب الإعتراف بأن هناك أعمالاً روائية بديعة وعميقة ولكن هل يشتري الناس تلك الأعمال بنفس الدرجة التي يشترون بها الأعمال الروائية التي تهدف إلى التسلية فقط؟ إذا مساعدة القراء الجدد على الإنتقال من الروايات المسلية إلى الروايات الأكثر دسامة أو الكتابات التاريخية أو العلمية (الموجهة للعامة بالطبع) هي مسؤولية الكتاب والمثقفين ودور النشر ووزارة الثقافة.
يقول أستاذنا عباس العقاد "الجسم يغذيه ما يشتهيه فأفرأ ما تحب تستفد"، هي مقولة صادقة بلا شك ولكن تنفيذها ليس سهلاً، كيف تستفيد مما تقرأ؟ هذا دور الندوات التي تعقد في المعرض والتي أتمنى أن تكون دائماً في صالح القارئ.
شخصية المعرض هذا العام كانت العالم الجليل الدكتور جمال حمدان ولهذا كان الإقبال كبيراً جداً على شراء كتابه الذي يعتبر العمدة في مجاله "شخصية مصر" (أربعة أجزاء من الحجم الكبير) والذي أصدرت منه الهيئة العام للكتاب طبعة خاصة بسعر مخفض قيل انها نفدت خلال المعرض وهذا شيء جميل، لكن هل سيقرأ الناس الأجزاء الأربعة خاصة أن الكتاب عمل علمي محض وغير أدبي؟ أم أنهم سيشترونها مسايرة للموضة ثم تأخذهم الحماسة في بادئ الأمر ويبدأون القراءة ثم تفتر تلك الحماسة عند ادراك الطبيعة العملية للكتاب وتظل الأجزاء الأربعة حبيسة الأرفف تجمع حبات التراب؟ على العموم إذا كنت قد إشتريت الكتاب فحاول أن تقرأ فيه بضع صفحات من حين لآخر فهو كتاب قيم.
موضوع شخصية المعرض يقودنا إلى إقتراح أرجو أن يتلقاه القائمون على معرض الكتاب بصدر رحب.
إذا نظرنا إلى شخصية المعرض في الأعوام السابقة سنجد أسماء مفكرين وكتاب عظماء مثل الأساتذة الأجلاء ثروت عكاشة (صاحب فكرة معرض الكتاب) وسهير القلماوي وعبد الرحمن الشرقاوي وجمال حمدان، هذا كله شيء رائع ولكن ينقصه عامل مهم: أن يأتي عام تكون شخصية المعرض فيه من العلماء، الدكتور جمال حمدان من عالم ينتمي للعلوم الإنسانية فماذا عن العلوم التطبيقة والنظرية؟ ماذا عن عالم كبير مثل الدكتور محمد كامل حسين؟ وهو من القلائل الحاصلين على جوائز الدولة في العلوم والآداب معا لأنه بالإضافة إلى مؤلفاته الأدبية والروائية والتاريخية القيمة يعتبر من رواد جراحة العظام في مصر. ماذا عن الدكتور أحمد زكي عاكف؟ وهو ثاني شخص (بعد الدكتور على مصطفى مشرفة) يحصل على دكتوراه العلوم وكانت إسهاماته عظيمة في الإرتقاء بمصلحة الكيمياء والمركز القومي للبحوث؟ ماذا عن الدكتور أحمد مستجير؟ وهو أيضاً حاصل على جوائز الدولة في العلوم والآداب. ماذا عن الدكتور يوسف حليم؟ أو الكتور محمد عبدالفتاح القصاص؟
حصلت على معلومة من صديق عزيز أن أغلب معارض الكتب الكبرى في العالم (لندن وفرانكفورت وباريس ...) لا يوجد عندها ما يسمى بشخصية المعرض، لكني أعتقد أنها مهمة عندنا لأنها تعطي الشباب مثلاً أعلى وتدفعهم إلى قراءة كتب تلك الشخصية ومعرفة قصة حياتها.
أتمنى أن تكون شخصية المعرض القادم شخصية علمية من نجومنا الساطعة ويا ليتها تكون شخصية لا يعلم الناس عنها الكثير حتى نعرف الناس بها، الناس تعرف الدكتور علي مشرفة والدكتور أحمد زويل، لكن ماذا عن الآخرين؟