فى سرديات الإقناع المنطقى البسيطة يقتطف المتحدثون شطر بيت من الشعر العربى القديم نصه: «متى يستقيم الظل والعود أعوج - وهل ذهبُ صرف يساويه بهرج».
ومن عجائب ما تسوقه تقارير عن الاقتصاد العالمى احتفاؤها المبالغ بمظاهر لما تعتبره من علامات المتانة والصمود اكتفاءً منها بالتركيز على رصد بعض المؤشرات لأحوال بعض البلدان المتقدمة. وما تخفيه إحصاءات ومتوسطات رقمية لبعض المتغيرات التى تظهر على السطح لا تستطيع أن توارى ما يعانيه الاقتصاد العالمى من ضعف، وما يعترى نظامه من تقادم وما أصاب مؤسساته من ترهل فى ما يمكن أن يطلق عليه الانحدار الكبير.
وفى العدد الأخير لمجلة «الإكونوميست» كان موضوعها الرئيسى عن النظام الاقتصادى الجديد جارت فى مطلعه ما يساق عن تعافى الاقتصاد العالمى رغم الصدمات المتوالية: فالاقتصاد الأمريكى يشهد نموا رغم الحرب التجارية المشتعلة مع الصين، والماكينة الألمانية التى تساند الاقتصاد الأوروبى تتفادى آلام خسارتها لإمداد الغاز الطبيعى الروسى بعد اندلاع الحرب فى أوكرانيا، وأشارت إلى أن الحرب فى الشرق الأوسط لم تسفر عن صدمة بترولية، والاضطرابات فى البحر الأحمر لم تظهر آثاراً سلبية تُذكر على التجارة العالمية كنسبة من الناتج العالمي. ولكنها تعود مؤكدة على أن النظرة الأعمق فى الاقتصاد تظهر هشاشته، وأن النظام الذى يدير أموره منذ الحرب العالمية الثانية قد أكل عليه الدهر وشرب وتراه وقد أوشك على الانهيار. وأن عوامل متعددة قد تدفع العالم إلى حالة من الفوضى؛ إذ تعتقد القوى المتغطرسة أنها على حق، وبذلك تكون الحروب نتيجة طبيعية كسبيل لحسم النزاعات.
وفى حوار استضافه الأسبوع الماضى الصندوق العربى للإنماء الاقتصادى والاجتماعى فى دولة الكويت، ضم مؤسسات مجموعة التنسيق العربية ولجنة المساعدة الإنمائية لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، ألقيت كلمة عن دور التمويل الدولى فى علاج ما تعانيه التنمية من أزمة وانحراف عن مسارها. حذرت من اتساع الفجوة بين البلدان النامية والدول المرتفعة الدخل مع تراجع فى صافى التدفقات المالية حتى وصل إلى أرقام سالبة، وتعويق حركة التجارة الدولية وتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة كنسبة من الناتج المحلى وفرض قيود على التعاون التكنولوجي. فضلا عن الآثار السلبية للسياسات الصناعية المتبعة فى البلدان المتقدمة وانتهاك بعض إجراءاتها قواعد العمل وفقا لمقررات منظمة التجارة الدولية التى تشهد تجاهلا وعدم اكتراث بقواعدها. كما أن بعض الإجراءات المتبعة فى سبيل التحول للاقتصاد الأخضر وتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ تتستر وراءها أو يترتب عليها إجراءات حمائية تعوق التجارة وتضر باستثمارات البلدان النامية. فاقتصادات عالم الجنوب أصبحت مشاريعها التنموية الخضراء بين مطرقة وسندان. فالمطرقة تتمثل فى ما يعرف بآلية تعديل الكربون عبر الحدود التى فرضها الاتحاد الأوروبى على صادرات قادمة إليه من منتجات الحديد، والصلب، والألمنيوم، والأسمدة والأسمنت. وفرضت المملكة المتحدة إجراءات مماثلة على القطاعات ذاتها وأضافت إليها منتجات السيراميك. وتدرس الولايات المتحدة فرض آليات مماثلة على وارداتها.
أما السندان فهو ما ارتبط بالسياسة الصناعية الجديدة والتى تتجلى فى حالة الولايات المتحدة بصدور ثلاثة قوانين فى عامى 2021 و2022 للاستثمار فى البنية الأساسية، والرقائق وأشباه الموصلات والتحول الأخضر. وهى قوانين صنّفها بنك الاستثمار الأمريكى (جيه بى مورجان) بأنها تتشكل من مزيج من الإنفاق الحكومى وفرض قيود على التجارة والاستثمار. ورصد البنك المذكور إجراءات مماثلة من اليابان والاتحاد الأوروبى وكوريا الجنوبية.
تذكرنا مقالة «الإكونوميست» مرة أخرى بدروس التاريخ لظروف مشابهة انتهت بحرب شاملة عُرفت بالحرب العالمية الأولى التى قضت على مغانم العهد الذهبى العالمى للعولمة، مع ما قضت عليه من أرواح بريئة ودمار شامل ومهّدت لحرب أخرى بعدها أكثر بشاعة ودمارا. وفى كتاب صدر لى فى عام 2022 بعنوان «فى التقدم: مربكات ومسارات» قارنت فى مواضع عدة بين الأحوال الراهنة لعالمنا التى تشهد عجزا فى الثقة وفائضا فى الأزمات، والفترة السابقة لحرب لم يردها أحد ولم يتوقع حدوثها أحد، ولكنها رغم ذلك اندلعت. فقد اقتتل فى الحرب العالمية الأولى 70 مليون جندى مات منهم 9 ملايين وقُتل 7 ملايين آخرين من المدنيين، وأصيب عشرات الملايين بعاهات لازمتهم مدى الحياة، وإصابات جسيمة عانوا منها حتى وافتهم المنية. كما أسفرت هذه الحرب الكبرى عن مذابح تلتها، كما تفشت الأوبئة فقتل بسببها أضعاف هذه الأرقام، كما مهدت للحرب العالمية الثانية بدمار أوسع وبخسائر أكبر، وكان من الممكن إنهاء هذه الحرب الأولى، التى لولاها ما كانت الثانية، إذا ما توافق قادة القوى الكبرى على حسم نزاعاتهم سلما.
ولكن الحروب من هذا النوع تحدث لأن من يدخلها يظن أنه سينتصر ثم تنتهى بخسائر للكافة على النحو الذى رصدته المؤرخة باربارا توكمان فى كتابها العمدة عن الحرب العالمية الأولى تحت عنوان «بنادق أغسطس».
تسود الاقتصاد العالمى تصرفات الحمقى بتبادل الأذى والإضرار بقواعد التجارة الدولية والاستثمار، وتترك فيه البلدان لتنهشها أعباء الديون بلا آليات فاعلة للتسوية أو إعادة الهيكلة. وأُهملت فيه مؤسساته المالية الدولية بلا دعم يزيد رءوس أموالها التى تحتاج إليها للقيام بعملها فى مساندة التنمية، وأُضيعت سنوات فى مبادرات شكلية تحت مسميات للإصلاح بلا مضمون لتطوير حوكمتها أو زيادة فاعليتها بالارتقاء بالحوكمة وعدالة وكفاءة تمثيل البلدان المختلفة فيها. هذه المبادرات تأتى مرة تحت مسمى رفع كفاءة استخدام رءوس الأموال ومرة بدعوى إعداد «خريطة طريق للتطور» وهى تعانى من تهافتها واستهلاكها للوقت وعدم تحديدها مواقيت ملزمة بمبالغ محددة لزيادة رءوس الأموال. أرى ما يجرى خريطة طريق للتطور نحو الانكماش حتى الفناء بما يعجل بنهاية ما تبقى من ترتيبات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.