عن صراع الهوية فى المدارس الدولية - باسم البنداري - بوابة الشروق
الأحد 1 يونيو 2025 10:57 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن صراع الهوية فى المدارس الدولية

نشر فى : الثلاثاء 16 مارس 2021 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 16 مارس 2021 - 9:52 م
لم تفاجئنى نبرة الناظرة الغاضبة، بعدما باغتتنى أثناء تدريسى التاريخ لأحد فصول الثانوى. فقد قبضت على متلبسا وأنا أتحدث المصرية العامية فى حصة، كان من المفترض أن تقتصر لغة التدريس فيها على الإنجليزية. صراحة، لا أتذكر تفاصيل الموقف، ولا موضوع الحصة. كل ما أتذكره هو قرارى يومها باختيار الصمت، لأننى كنت فى غنى تام عن أى مشاكل مع رئيستى فى وظيفة لم يتعدَ عمرها سوى أشهر قليلة. وبالرغم من تجاوزى لتوبيخها يومها، إلا أننى تركت مقابلتنا وأنا على يقين تام بأن إيصالى للمعلومة كانت ستقل فاعليته بالإنجليزية، نظرا لقدرتى على نقل المحتوى بإحساس أعمق بالعامية.
بعد البحث توصلت إلى أن هذا التعارض المفروض بين العربية واللغات الأوروبية ينبع فى الواقع من فكرة أن الهوية «الغربية» لا تتسق فى مجملها مع هويتنا «الشرقية». وبغض النظر عن صحة تلك الرؤية من عدمها، فقد نقل ذلك التناحر بشكل غير إرادى فى بدايات القرن الماضى إلى مجال اكتساب اللغات الثانية. فراجت صورة مغلوطة عند غالبيتنا العظمى تتلخص فى نظرية تسمى بالـ«balance theory»، تؤمن بوجود «خناقة» أزلية داخل المخ بين اللغات، وكأن المخ كوب فارغ ومحدود، له حد أقصى من اللغات التى من الممكن ملؤه بها. فإن تعلمنا الإنجليزية، ستفرض نفسها لتطغى على مساحة العربية فى المخ أو العكس.
إلا أن الواقع يناقض ذلك التخيل، وهو ما دحضته لاحقا نظرية كمنز (common underlying proficiency). كمنز توصل إلى أن عقولنا تستخدم موسوعتها اللغوية كلها بانسيابية بين اللغات أثناء التفكير. والسبب بكل بساطة هو أن أنماط التفكير بداخل عقولنا واحدة، لا تتغير مع تغير اللغة. فنحن لا نملك صندوقا يفتح خصيصا عند تحدث الإنجليزية وآخر نستخدمه للعربية. فاللغة عند ثنائيى اللغة أشبه بالوعاء الكبير، الذى تخرج منه قمتا جبلين، واحدة لكل لغة يتحدثها المرء. ظاهريا قد تبدو كل لغة مختلفة عن نظيرتها، إلا أنهما فى الواقع يتشاركان نفس أصول التعامل مع اللغة. والدليل هو ما أظهرته الأبحاث حول التأثير الإيجابى لكفاءة الأطفال فى لغتهم الأم على قوة إتقانهم للغتهم الثانية. فالقدرة على استيعاب المفاهيم والتعبير عنها باللغة الأم، تساعد على نقلها بسهولة للغة الثانية. وانسيابية إدراكنا اللغوى هذا، من الممكن ملاحظته أيضا، عند محاولتنا لتذكر كلمات عربية فى بعض الأحيان عن طريق معرفتنا بمعانيها فى الإنجليزية، وذلك لتوصيل فكرة باللغة العربية فى الأصل!
***
فى تقديرى الشخصى، مصطلحا منقص (subtractive) ومضيف (additive)، يعكسان لب أى فلسفة تعليمية على علاقة وثيقة باللغة. فالتعليم المنقص، هو التعليم الذى يهدف إلى الأخذ من اللغة الأولى، وإحلال لغة ثانية مكانها، وهو ما يحدث فى الأساس بسبب الممارسات التعليمية فى المدرسة والبيت، بالرغم من قدرة الطفل الفطرية على استيعاب أكثر من لغة فى نفس الآن. بينما التعليم المضيف يهدف إلى العكس بالضبط. واللغة هنا لا تقتصر على الكلمات والعبارات، بل تحمل معها بعد الثقافة التى تأتى مع تلك اللغة. فهل الهدف هو أن تمحى ثقافة وتحل أخرى مكانها. أم الهدف هو أن تتجانس الثقافتان معا بطريقة مكملة لبعضهما البعض... يؤخذ من كل منهما ما يؤخذ بوعى تام، بغض النظر عن محتواه.
المشكلة الأساسية تكمن فى أن أغلب المدارس الدولية فى مصر، تعتمد برامج منقصة حتى وإن كان ظاهرها يهدف إلى إضافة اللغة الثانية إلى العربية. وأفضل نقطة بداية لفهم دوافع أولياء الأمور عند إلحاق أبنائهم بها، هى تشريح المدارس الدولية المختلفة ما سيساعدنا على تحليل السياسات المختلفة التى تتبعها إداراتها بخصوص اللغة الثانية.
فأكثر تلك المدارس إنقاصا فى فلسفتها التعليمية، هى أعلاها مكانة وقيمة. ولذلك تعرف بأنها مدارس انترناشونال «بجد»... أول علامة على أحقيتها بتلك المكانة، هو كون مصاريفها بالعملة الصعبة، وهو ما تفسره حقيقة أن أغلب مدرسيها/ مدرساتها يكونون من الأجانب ذوى البشرة البيضاء والعيون الزرقاء. أغلب موادها تدرس باللغة الثانية، بينما لا يعطى فيها أى اهتمام لتدريس «مواد الحكومة» على الإطلاق، وهو اتجاه معروف فى تعليم اللغة بالأحادى (monolingual)... فى هذا الاتجاه، تطغى اللغة الثانية تماما على اللغة الأم، وبالتالى يتخرج منها طلبة يتقنون الإنجليزية كتابة ولهجة، بينما يصعب على أغلبهم التعبير عن أنفسهم بالعربية، خاصة إن لم يعرها الأهل اهتماما مباشرا لتقويتها.
وطبعا، لا تساعد فقاعات الانعزال فى كومباوندات التجمع الخامس والسادس من أكتوبر على خلق أى تفاعل حقيقى مع الحياة الطبيعية فى الشارع، فينتهى به الحال، فى صراع هوية داخلى، لأن كل علمه وقدواته من المدرسين/ات لا يشبهونه، لا شكلا ولا موضوعا. بل وينظر إليهم كرموز للتحضر والتقدم، بكل ما يملكون من قيم وآراء وتاريخ. فيكبر ليتعلم أن الاستعمار ساهم فى تحضرنا، وأن اللغة الثانية هى إحدى علامات هذا التحضر. ولعل ذلك يبرر الرمزية الطبقية التى تصاحب الالتحاق بتلك المدارس. فهى ترتبط بالقدرة المادية من ناحية، وبرمزية فوقية ينظر فيها إلى العامة ككيان مختلف، بكل ما يمثلونه من لغة وقيم وعادات من الناحية الأخرى. ثم تتحول تلك الرمزية إلى مادة للتفاخر بين الأهل والأبناء سواء، مما يشجع المدارس على الاستمرار فى تبنيها للبرامج المنقصة لغويا.
وبما أن قانون العرض والطلب يتحكم فى منظومة التعليم الخاص المصرية، فالنموذج الآخر من المدارس الدولية هو الأعم. يقل عادة تقييم المجتمع لهذا النموذج من المدارس، كلما زاد معدل المصريين العاملين بها، فتصبح أقل «نضافة» من غيرها. وطبعا، تساهم زيادة نسبة المدرسين/ات المصريين/ات فى تقليل مصاريفها، بما أنهم يقبضون بالجنيه بدلا من الدولار.
هنا تدرس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية والدين إلى جانب اللغة الثانية... وبناء عليه قد تبدو تلك المدارس لغير المدقق وكأنها تعمل على إضافة اللغتين والحفاظ على جوانب مهمة من الهوية... إلا أن الشيطان يكمن فى التفاصيل، لأن اختلال موازين القوى بين اللغتين يتضح فى جوانب التعامل فيها... بداية تحصل المواد التى تدرس باللغة الثانية على أغلب وقت الدراسة… وتغلب عليها قاعدة «All English، all the time» مما يحد من تشجيع الطلبة على الفهم وتعلم اللغة، لتساهم فى خلق مفهوما مغلوطا... فالطالب/ة التى تتكلم الإنجليزية بطلاقة لها اليد العليا فى تلك البيئة، لأنها تملك المهارات وبالتالى المساحة للتعبير عن نفسها.. أما من يواجهون صعوبات، فيتكون حاجز بينهم وبين اللغة. فمن ناحية، لا تخلق علاقة طبيعية معها، فيها مساحة لتقبل الأخطاء، لتنعدم الثقة ويتجنب معها الطلبة التفاعل مع اللغة من الأساس. بالرغم من أن الطلبة سينجحون فى توصيل تلك الفكرة، إن سمح لهم المزج بين اللغتين... فتصبح المدرسة أداة تعيد إفراز بيئة شبيهة بتلك الحاضرة فى المجتمع الخارجى، لتضع الطالب غير القادر عن التعبير باللغة الثانية فى مرتبة أقل عن أقرانه، بدلا من تحديها وتغييرها.
***
حل تلك المعضلة، يستلزم إدراكا واعيا بكل جوانب العملية التعليمية منذ لحظة دخول الطلبة المدرسة حتى خروجهم منها، لكى تخلق علاقة متوازنة ومضيفة بين اللغتين. وتندرج تحت مظلة تلك الفلسفة العديد من البرامج ثنائية اللغة. (bilingual) سأتكلم هنا عن تقديرى الشخصى لأفضلها وهى المدارس مزدوجة اللغة، التى يقسم فيها الوقت للتحدث بين اللغة الأم واللغة الثانية. قد تقسم بناء على المواد (حساب بالإنجليزى وتاريخ بالعربى)، أو الأيام (الأحد بالإنجليزية والخميس بالعربية)، أو المواضيع (تاريخ الثورة الفرنسية بالفرنسية، وثورة ١٩١٩ بالعربية)... وتحدده سياسة المدرسة طبقا لتقديراتها. فى تلك المدارس تكون أغلبية المدرسين/ات من أبناء جنس الطلبة ممن يجيدون اللغتين، إلا مدرسى/ات مادة اللغة الثانية.
طبعا، يتم هنا التنازل عن إعطاء الطلبة القدرة على التحدث باللهجة الأمريكية فى مقابل أن تكون نماذج المدرسين/ات للطلبة شبيهة بهم وهى نظرية تسمى بالملاءمة الثقافية (cultural relevance). الفكرة هنا هى أن تفاعل الطالبات مع ميس كورتنى الكندية، التى شجعها أهلها على الانضمام لفريق رقص المدرسة فى سن الرابعة عشر، وكانت على علاقة كاملة مع حبيبها منذ أن كانت فى السابعة عشر من العمر بعلم والديها سيكون مختلفا عن التفاعل مع ميس فريدة، التى اضطرت للتعامل مع التحرش فى شوارع القاهرة منذ أن بلغت سن الرابعة عشر، ومضت حياتها تناور واقع حياة تفرض فيه قيود مضنية عليها كسيدة. فمن منهن سيكون لها تأثير أعمق على تشكيل شخصياتهن ومساعدتهن ليكن سيدات أقوياء مستقلات مدركات لطبيعة مجتمعهن وكيفية التعامل معه بذكاء؟ لا أنكر هنا أن وجود ميس كورتنى مهم، لأنه يساهم فى «تفتيح الدماغ» والانفتاح على ثقافة الغير... ولكن كم كورتنى تتواجد فى مبنى المدرسة؟ وهل تعامل بنفس المعايير كزملائها/ كزميلاتها المصريين/ات؟
قرار استخدام اللغة فى تلك المدارس يقابل بتمعن شديد هو الآخر. فبالرغم من وجود أوقات مخصصة للتحدث بلغة ما، إلا أنها ليست قاعدة جامدة. فقدرة المدرسين/ات على التحدث باللغتين تتيح لهم مزجهما عند الحاجة، لتوصيل المعنى ولتوسيع القدرة اللغوية، وهى ممارسة مسماة بالـ«transــlanguaging»، فبكل بساطة رؤية الطالب/ة لكلمتى «استغلال» و«exploitation» على السبورة، يساعده على ربط المعنيين ببعضهما البعض، مستغلا قدرة عقله على التنقل بين لغة وأخرى، لاستيعاب المفاهيم بسرعة. وعمق معادلة القوة بين اللغتين يصل فى بعض المدارس إلى كتابة اللافتات المنتشرة فى الأنحاء باللغتين، حتى لا يشعر الطلبة بسيطرة لغة على الأخرى. وهكذا لا تتصارع الهويتان بل توضعان فى توافق وندية. لا توجد فيه واحدة أفضل، بل يصبح الاختيار مسألة شخصية تتعلق بانحيازات الطلبة وأولياء أمورهم الشخصية. دور المدرسة يتمحور فى تلك المعادلة حول إتاحة اللغة الأم واللغة الثانية كأدوات للتعرف على كل جوانب الهوية التى تمثلها تلك اللغة. ومن ثم إتاحة القدرة على تقييمها بأدبها، وفنها ومسلسلاتها بنظرياتها وقيمها وتقاليدها .
***
إن ميلنا لمزج الإنجليزية بدرجات متفاوتة فى كلامنا اليومى ظاهرة تعكس أبعادا طبقية وثقافية لا حصر لها. لذلك يجب علينا فى جميع الأحوال إدراك الإطار التربوى المؤثر على تفاعلاتنا اللغوية اليومية، لتصبح تبعات اختياراتنا المتعلقة بكلامنا وقراءاتنا ومسلسلاتنا واضحة.. فسواء كان اختيارك أن تطلب من ابنتك أن تلبس «الشوز» أو «الجزمة» أو «الحذاء» أو استخدام جميع الترجمات بالتبادل. فهو فى نهاية المطاف قرار شخصى ونسبى ــ يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ...
ولكنه بكل تأكيد أيضا قرار فاعل ومنحاز!

باسم البنداري حاصل على رسالة الدكتوراه من جامعة كولومبيا وباحث في الشئون التربوية. عمل كمدرس لطلاب الثانوي بين مدينتي القاهرة ونيويورك، واستكشف نظما تعليمية تقليدية وغير تقليدية في العديد من الدول. باسم يعمل أيضاً كمؤهل للمدرسين ويعمل حالياً كاستشاري وباحث في تأهيل المعلمين.
التعليقات