فى روايته المعنونة «حفل اللامعنى» (نشرت باللغة الفرنسية فى ٢٠١٣، وقرأت ترجمتها الألمانية التى صدرت فى ٢٠١٥)، يكتب الأديب التشيكى ــ الفرنسى ميلان كونديرا عن الأزمة الوجودية التى يسببها لنا كبشر معاصرين إخفاقنا المتكرر فى تغيير العالم وعن السبيل الوحيد المتاح لنا لمواصلة الحياة على الرغم من عجزنا عن تجاوز أزمتنا الوجودية.
«أيقنا منذ زمن غير قريب أن قدرتنا على التخلص من عالمنا أو على القيام بإعاده صياغة شاملة لمكوناته الكبرى أو على إيقاف حركته المتسارعة إلى أمام ما لم تعد قائمة. أدركنا أنه لم يعد لنا سوى سبيل وحيد للمقاومة، السخرية من هذا العالم والتوقف عن التعامل معه بجدية. غير إننى أكتشف أيضا أن سخريتنا من العالم لم تعد تضحكنا...» (صفحة ٩٤).
«ما علينا، الآن يبدو لى اللامعنى تحت أضواء مغايرة تماما لما قبل. اللامعنى، يا صديقى، هو جوهر الوجود. هو فى كل مكان، ودائما أبدا معنا. بل أن اللامعنى يحضر هناك حيث لا يريد أحد منا أن يراه؛ هناك حيث الفظائع، حيث الصراعات الدموية، حيث الكوارث الأفدح. لذا فإننا يلزمنا الكثير من الشجاعة لإدراك حضور اللامعنى هناك حيث لا نريد أن نراه، وتعريفه بمسماه الحقيقى. ولا تنتهى شجاعتنا عند إدراك حضور اللامعنى، فواجبنا هو أن نحب حضوره، أن نتعلم كيف نحب هذا الحضور...» (صفحة ١٣٧).
هاتان فقرتان أحسبهما كقارئ للأدب بديعتان فى تناول ضياع المعنى فى العالم المعاصر، والأزمة الوجودية التى يرتبها ويتوفر سبيل وحيد لتجاوزها. هاتان فقرتان أحبسهما عميقتان أخلاقيا ومجتمعيا فى دعوتنا للتوقف عن طلب تغيير العالم المعاصر، والاعتراف بكون «اللامعنى» يحاصرنا من كل جانب، والانتقال إلى السخرية منه حتى فى أكثر الظروف والأحوال قسوة ومأساوية. هاتان فقرتان صاغهما ضمير وعقل أديب أوروبى ينظر إلى ظواهر الظلم والحروب والإرهاب والعنف وصعود المتطرفين والعنصريين وكارهى الحياة ومستبيحى الدماء، ولا ينكر الصراعات المجتمعية المستمرة بين من يملكون ومن لا يملكون وبين من يدعون الانتماء إلى الأغلبية ومن تفرض عليهم هويات الأقليات (هذه التمايزات تشغل حيزا معتبرا فى رواية «حفل اللامعنى»). والسبيل الوحيدة الذى يطرحه كونديرا لتجاوز الأزمة الوجودية التى يسببها ضياع المعنى هو الاعتراف به وبها، والانتقال إلى السخرية من عجزنا كبشر على تغيير العالم المعاصر.
لست بساخر، غير إننى أسلب يوميا من القدرة على البحث والعثور على المعانى فى كل الجنون والعبث الذى يحيط بنا فى مصر وجوارها الإقليمى وفى العالم من حولنا. لا شىء غير اللامعنى فى كل تلك المظالم والانتهاكات التى ترتكبها السلطوية الحاكمة فى مصر. لا شىء غير اللامعنى فى ذلك العدد المأساوى لمن زج بهم إلى السجون وأماكن الاحتجاز خلال السنوات الماضية فى مصر. لا شىء غير اللامعنى فى تلك الحروب المدمرة وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية فى سوريا واليمن وغيرهما. لا شىء غير اللامعنى فى إجرام إرهابى يقتل مرتادو المقاهى والمطارات الأوروبية تفجيرا، أو يقتلهم شرق أوسطيا بطائرات بدون طيارين فى المدن والقرى والمناطق القبلية، أو يحرقهم عربيا كداعش والمستوطنين الإسرائيليين.
لا شىء غير اللامعنى فى الغوغائية التى تحاصرنا بفعل حكومة سلطوية تغتال العقل فى مصر ومعارضة عاجزة عن تبنى خطاب ديمقراطى حقيقى، بفعل مستبدين هنا وهناك لا يريدون سوى البقاء فى الحكم ويحولون بين شعوبهم وبين الانعتاق من ظلمهم ولو كلفهم دماء ورقاب ودمار دون نهاية، بفعل متطرفين وعنصريين وانتهازيين يسطون على الانتخابات والأدوات الديمقراطية لنشر الكراهية والخوف.
لا شىء غير اللامعنى كما يكتب كونديرا، فهنيئا للساخرين. وما أقسى مواصلة الكتابة ومحاولة الكلام عند ضياع المعنى، وحال إدراك العجز على تغيير ما يحاصرنا من جنون وعبث.