«البدائية» طوق نجاة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«البدائية» طوق نجاة

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2019 - 10:10 م | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2019 - 10:10 م

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة سوسن الأبطح، جاء فيه ما يلى:

من عجائب الدنيا أن يهرع الغرب للنبش عن حلول لما اقترفت يداه من تخريب وتدمير للكوكب، فى أحضان الشعوب البدائية التى قاتلها باسم «التحضر» و«التمدن» حتى أوشكت على الاندثار. ولما ارتفعت الحرارة بما لا يطاق، وصارت الكوارث الطبيعية من اليوميات، والفيضانات على غير المعتاد، قررت جامعة كامبريدج أن تُجرى أبحاثا عن الشعوب التى لا تزال تحتفظ بعلوم الأجداد، والمعارف المتوارثة، لتكتشف أن هؤلاء لديهم من الحكمة والمعرفة ما لا يملكه أكبر مراكز الدراسات التى صُرف عليها المليارات، ولم تأتِ إلا بمزيد من الاستنزاف للطبيعة. وهذا ليس بجديد، فأنثروبولوجى فذ مثل كلود ليفى ستراوس، كان قد سبق كل هؤلاء البحاثة، لكن تياره بقى ضعيفا فى ظل النظرة الاستعمارية المتغطرسة.

ومن يقرأ الكتاب الذى أصدرته جامعة كامبريدج، بالتعاون مع اليونيسكو العام الماضى، يرى أنه أوصى بـ«ضرورة» فتح حوار بين علماء المناخ وأصحاب المعارف التقليدية، من أجل فهم أفضل لكيفية تحقيق التنمية المستدامة، علما بأن هذه الشعوب هى نفسها التى تم تدمير مقوماتها، ذات يوم، باسم «التنمية»، مرة ببناء السدود، وأخرى بقطع الأشجار لزرع غابات من الباطون، وغيرها بتلويث البحار.
أما وإن مفهوم «التنمية» صار محيّرا بعد أن فُقدت البوصلة، فالاتجاه الجديد هو العودة إلى نبع الأجداد، لأن الأبناء أو بعضهم، أدركوا أنهم ضلوا الطريق.

ومن باب السير فى الخط نفسه، خصصت اليونيسكو العام الحالى كسنة دولية للغات الشعوب الأصلية، على اعتبار أن اللغة هى حاملة المفاهيم وقالب الفكر وبها يترجم الإنسان قوله عن مهاراته وما يدور فى خلده. وبالتالى فعند اليونيسكو اللغة والمعرفة، هما أمر واحد. وبدء اندثار آلاف اللغات هو اختفاء لتجارب أهلها، التى فيها من المهارات ما يمكنه أن ينقذ الأرض من همجية الاستنزاف الاستهلاكى المتوحش.
فى فيجى مثلا، سكان أصليون، هم شعب من الملاحين، أدركوا قبل غيرهم أنهم وُضعوا رغما عنهم، فى الخطوط الأمامية لمواجهة تغيير المناخ علما بأنهم ليسوا مَن خرّب ولا لوّث ودمّر. وهذا سبب غضبهم. يقولون إنهم وجدوا أنفسهم محرومين من شعابهم المرجانية التى ابيضّ لونها، ومن محيطاتهم التى أصبحت خليطا من الحمض والبلاستيكيات، ومخزوناتهم من المياه تُهدر. وبكلمتين حُرم هؤلاء من أبسط حقوقهم فى الحياة والاستمرار، من دون ناقة لهم ولا جمل.

ومن المحزن أن تقرأ ما كتبه ناشط فيجى، عن كيف أن مراكبهم الشراعية التى برعوا فى بنائها من حواضر بيئتهم، وسابقوا بها الرياح، كانت عند وصول الأوروبيين إلى المحيط أكبر المراكب وأسرعها فى العالم. وفى القرن الثامن عشر، كتب الربان كوك ما يلى: «كانت (توى تونغا) تحوم حول مركبنا كما لو كان مركبنا راسيا». و«توى تونغا» هى سفينة فيجية محلية الصنع من جزر لو. وحسبما يقول الناشط الشاب، الذى يدافع هذه الأيام، عما تبقى من حضارته، كانت تلك السفينة «أكبر من مركب كوك وتبلغ سرعتها ثلاثة أضعاف سرعته، وطاقمها يفوق طاقمه عددا. كانت قادرة على الإبحار وهى ملتصقة بالرياح، تماما كالسفن العصرية». ومع ذلك فقد السكان مراكبهم الذكية بالفطرة، وها هم يحاولون إحياءها.

البحث عن الخبرات القديمة لالتقاطها جارٍ على قدم وساق، وتم رصد مهارة أقلية عرقية صينية تعيش فى مقاطعة كونغجيانغ، لها براعة غير عادية فى استغلال أرضها المحدودة الصالحة للزراعة، باعتماد نظام يسمونه «تآزر أرز ــ سمك ــ بط» بحيث يزرعون الأرز فيما يتاح لهم من الأرض، ولما كان هذا النوع من المحاصيل يحتاج إلى أن يغرق بالماء، فهم يربّون فيها الأسماك الصغيرة، وما إن تكبر قليلا وتصبح عصية على الابتلاع، يضعون معها البط. وهذا النظام يعود إلى 225 سنة قبل الميلاد. واللافت فى هذه الطريقة أنها تحافظ على التوازن البيئى، ولا تحتاج المزروعات إلى أى مبيدات، ولا تصاب بالآفات، ويتم إنتاج النبات واللحم والسمك فى مساحة اقتصادية ومحدودة.

وفى خضمّ الاهتمام الجديد بثقافة السكان الأصليين، تتم الإفادة من تجارب مجتمع الميشتاك فى المكسيك الذى له أساليبه الخاصة فى معاينة الأحوال الجوية، ويعرف الأهالى هناك من طبيعة صوت عصافير الشيكوكو، إذا كان موسم الجفاف قد انتهى أم ليس بعد. ويزرعون الذرة تبعا لما تقوله لهم أوراق شجرة العرعر، فإن ظهر عليها الغبار كان ذلك نذيرا بضرورة تأجيل موسم الزرع. ويبدو أن المجتمعات التى تتناغم مع الطبيعة، وتُصغى لما تقوله العصافير، وما تريده النباتات، هى آخر ما تبقّى للمتحضرين الخائبين للخروج من مأزقهم.

حين تعرف أن المتبقى من سكان يُصنّفون اليوم على أنهم أصليون هم فقط 5% من العالم، قد تظن أن المسألة قد انقضت، وأنْ لا رجاء، لكن الجهود كبيرة، وإن كانت ليست بالقدر المطلوب، لتسجيل التراث، وبث الإذاعات المحلية التى تتكلم باللغات الأصلية وتمويلها، والأبحاث مستمرة، والتواصل مع هذه الشعوب لا ينقطع. لكن المشكلة الأساسية هى فى السياسات الكبرى لدول ترى أن كل مختلف خطر، ويتوجب القضاء عليه بدل الإفادة منه.

المعركة مستحقة.. يقال إن هذه الشعوب تقبض على 80% من التنوع البيولوجى المتبقى للإنسانية. أما نحن الذين لم نعد نعرف إن كنا أصليين أم مزيفين وربما مشوهين، ونشبه كل الآخرين، فخبرتنا لا تشكل إلا أقل من ربع مخزون البشرية الثقافى.

التعليقات