قدم أبو تريكة تَبكى ! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 3:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قدم أبو تريكة تَبكى !

نشر فى : الخميس 17 ديسمبر 2009 - 9:35 ص | آخر تحديث : الخميس 17 ديسمبر 2009 - 9:35 ص

 صباح وقفة عيد الأضحى الماضى أغلقت هاتفى بعد أن هنأت بالعيد من أحبهم، وصعدت مع أسرتى الصغيرة سلم الطائرة المتجهة إلى أسوان، بلا كمبيوتر، ولا كتاب، ولا جريدة، بل حتى بلا ورقة ولا قلم. كنت أريد غسل خواطرى من رشاش الوحل الذى تناثر علينا فى أعقاب مباراة مصر والجزائر، والذى كان مصدره ذلك المستنقع الذى أدخلنا فيه أجلاف وبلهاوات الشاشات الصغيرة، وصغار العابثين سياسيا، وحشود الغندرة والمنظرة والتفاهة التى عرّتها الأحداث. ثم إننى كنت راغبا فى استصفاء نفسى لجراحة تنتظرنى بعد العيد، وقد تمت بحمد الله.

راقت لى الطائرة الصغيرة الجميلة، سعة 60 70 راكبا، والتى لم أستطع تحديد نوعها، ولما مددت يدى فى جيب المقعد أمامى لأعرف من كُتيِّب تعليمات النجاة نوع الطائرة، وجدت جريدة بها موضوع عن إصابة اللاعب الذى أحبه كثيرا محمد أبو تريكة، وحديث عن تفكيره فى اعتزال اللعب الدولى بعد مباراة الخرطوم مع الجزائر، وظل هذا يشغل تفكيرى خلال الرحلة إلى أسوان.

فى أحد مطاعم الأسماك الأسوانية، حيث تُباع أسماك بحيرة ناصر بأسعار العاصمة، لأن هبِّيشة الاستثمار كانوا قد وصلوا إلى هناك، وراحوا يشفطون أسماك البحيرة ويبيعونها بأسعار «استثمارية» حتى لأبناء البحيرة، ترامى إلى سمعى حديث عن قطار احتفالى بعربة مكشوفة كان ينتظر الفريق القومى بعد عودته من الخرطوم منتصرا، ليُحشَر فيه أفراد الفريق، مكبوسين بثقال الظل إياهم، وأبواق إعلام الزفة والخفة، ثم يشق القطار طريقه عبر ألف كيلومتر من الاستثمار السياسى السخيف..إلى القاهرة!

لم يبرح محمد أبو تريكة بالى، ظلت صورة حيائه الأثيرى الجميل طافية فوق النيل وجزيرة النباتات ومعبد فيلة، فحياء هذا اللاعب عملة نادرة فى زمن قلة الحياء، ثم إن هذا الحياء الصادق لإنسان كمحمد أبو تريكة، لم يمنعه أن يكون خليطا من الفهد والغزال فى الملاعب، ونجما رصينا ويقظا فى كل تصرفاته، وهذا الحياء النبيل نفسه هو الذى فسّر لى المعنى الأعمق لإصابته، وكشف عن اتساع المحنة التى تعرض لها فريقنا القومى، وهى محنة صنعناها نحن أولا، قبل أن يساهم فى صنعها أى طرف غيرنا مهما كانت حقيقة ممارساته.

لقد كنت بطل محافظة فى الجمباز، ومنافسا فى بطولات الجمهورية للمدارس الثانوية، لهذا أعرف ما لا يعرفه غير اللاعبين فى قطاع البطولة، فاللاعب لا يبلغ ذروة أدائه الشخصى فى المنافسات إلا عندما يتخلص من كل أو معظم ما يحيط به من ضغوط، خاصة ضغوط التشجيع المفتعل، الذى يخنق اللاعب بمطالبات لا تخص حبه للعبة وطموحه للارتقاء فيها.

وعندما يصل اللاعب إلى لحظة التحرر الذاتى هذه، يتألق، ويعطى أفضل ما عنده، تماما مثل المطرب أو العازف الذى يصل إلى درجة السلطنة فيُغنِّى أو يعزف لنفسه، ليُجَن بالنشوة جمهوره، وهو يكاد لا يرى هذا الجمهور. فهل كان كل ما صنعه إعلامنا «الكروى» السطحى، والفظ، والعبث السياسى، وهستيريا الأناشيد الوطنية ورفرفة الأعلام وصراخ الحناجر واشتعال الألوان، هل كان ذلك كله مما نتوقع أن يصل بلاعبينا إلى درجة التجلِّى؟

لم يكن ذلك ممكنا، خاصة وقد أُضيف إلى صنيع السفهاء والخبثاء منا صنيع من يناظرهم من الطرف الآخر، فكان ما كان، ولم يكن شرخ وجه القدم الذى أصاب اللاعب المحبوب، وسيجعله يبتعد عن الملاعب لثلاثة أشهر كاملة كما جاء فى تصريحٍ طبى، إلا تعبيرا بليغا عن مردود الضغوط التى أثقلت على أبطال فريقنا القومى، وأبرزهم أبو تريكة، فبكت من ثقل الضغط قدمه الفنانة، والتى رشح أنها كانت مصابة بالإجهاد فى معسكر الإعداد بأسوان قُبيل موقعة الخرطوم، فكأن الشرخ هو الدمعة السخينة التى ذرفتها عظام القدم، وهذا ليس تخريجا أدبيا، بل هى حالة فيزيائية وطبية تماما، فحتى صُلب الطائرات والسفن عندما يتراكم عليه الإجهاد، تمزقه بسهولة أصغر هبة من هواء أو أضعف لطمة من موج، كما أن هناك قانونا عن تحول الأعباء النفسية إلى معاناة عضوية تلخصه حكمة تقول « عندما لا تدمع العين، يبكى الجسد». وبكاء الجسد أقسى كثيرا مما يتصور معظمنا، فهو عاصف الألم، ومدمِّر للخلايا والأعضاء، ويشرخ ويكسر حتى أصلب العظام!

سريعا مضت أيام أسوان القليلة الحانية، وركبنا الطائرة لنعود، ومن جديد لم أعرف المزيد عن الطائرة الجميلة، التى أجمل ما فيها أنها مريحة بلا بذخ، وكافية بلا تقشف، حالة من الاعتدال الجمالى والتقدم التقنى، فقد لاحظت أنها قادرة على الإقلاع والارتفاع فى الهواء بنعومة فى زمنٍ خاطف، وكذلك عند الهبوط، سجلت اسم الطراز المدون فى كُتيب الإرشادات، وسألت الطيار عند وصولنا عن البلد المُصنِّع للطائرة، فأخبرنى : «البرازيل»!

البرازيل إذن، بلد ملوك السامبا، أجمل كرة فى العالم، كرة الجنون الحلو والفنون البديعة، كرة غير مثقلة بعبء تعويض وطن بحاله عن سوء معظم أحواله، كرة لا يختطف مجدها مشتاق للتوريث أو متطلع للتكريس، كرة يتصاعد لاعبوها فى لحظات تجليهم الحر فيستمتعون ويُمتعون، كرة ليس مُطلوبا منها أن تُعوِّضِ عما عداها، فالبرازيل الصاعدة أبدا فى الملاعب الخضراء، والتى كانت على حافة الهاوية عام 1999، واضطرت لاقتراض 30 مليار دولار من البنك الدولى، وكان أطفال الشوارع على أرصفتها من الكثرة إلى درجة كنسهم بالرصاص، أو تجميعهم فى مزارع لتغذية تجارة الأعضاء البشرية، هذه البرازيل، وبعد معاناة مريرة طويلة مع حكومات الاستبداد والفساد، اختارت بانتخابات ديموقراطية نزيهة رئيسا مخلصا هو «لولا دا سيلفا» عام 2002، فسددت كل ديونها فى غضون أعوام قليلة، وصار لديها فائض يُقدّر بمائتى مليار دولار، وتتمتع بأقل نسبة غلاء فى العالم، وهى الآن الأولى اقتصاديا فى قارتها والعاشرة على الدنيا. ومع ذلك يُصِرُّ رئيسها الناجح «لولا» الذى توشك فترة ولايته الثانية على الانتهاء، أنه لن يغير الدستور الذى ينص على فترتين فقط لأى رئيس، ومن ثم لن يستمر لفترة ثالثة، برغم سهولة فوزه النظيف بها إن أراد، لكنه يترفع عن ذلك!

الطائرة التى ركبناها، كانت (إمبراير 170) من انتاج شركة «إمبراير» البرازيلية التى تُعتبر الآن ثالث أكبر شركة صناعة طائرات مدنية فى العالم بعد بوينج الأمريكية وإير باص الأوروبية، وهى تُنتج الطائرات الحربية والمدنية والاستخباراتية والسيارات الثقيلة والخفيفة إلى جانب آليات الحفر والتنقيب والأوناش الضخمة للسفن وبناء الأبراج، ولدى هذه الشركة وحدها طلبات خارجية حالية تُقدَّر بـ15 مليار دولار، ولها فروع موزعة على البرتغال والصين وسنغافورة وفرنسا والولايات المتحدة!

لقد بدأت صناعة الطائرات البرازيلية عام 1940، أى فى وقت قريب من بدء تلك الصناعة فى مصر التى افتُتح فيها مصنع هليوبوليس للطائرات عام 1949، وتلاه مصنع طائرات حلوان عام 1952، ولقد وصلت مصر إلى كامل تصنيع الطائرة «القاهرة 300» أما الآن فلم نعد نُصنّع، بل نُجمِّع، فالتجميع يريح بليد الرءوس، ويحشو جيوب الوسطاء بالفلوس، ويُغْنى باستفحال الأرصدة الحرام أفقر النفوس.. أقبح النفوس!

وسلامة قدمك الموهوبة يا أبو تريكة..
سلامة روحك المُحلِّقة ببهاء الحياء.. يا محمد.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .