صعب قوى البُعد عن مصر فى الوقت ده. أقصد البُعد الجغرافى، لأن الحقيقة اهتمام الواحد، وتركيزه ومشاعره موجودون فى مصر على طول.
أقول لنفسى إن برضه مفيد، مفيد أن أكون فى برلين، فى تجميعة لبعض المشتغلين بالفن والثقافة من البلاد العربية، ابتكرها طارق أبوالفتوح من «صندوق المسرح العربى الشاب»، وأسماها «نقاط الاتقاء»، تجتمع هذه المرة فى برلين. حضرت يوما واحدا فقط، شاهدت فيه إبداعات من سوريا وفلسطين. وعلق فى ذهنى:
عملان لمنى حاطوم، فى أحدهما جندى بكامل عتاد الحرب يتسلق أنف امرأة تنظر إليه عيونها باندهاش. العمل مُعَنْوَن: «على جثتى». فى العمل الثانى نرى مائدة مستطيلة كبيرة فى غرفة رسمية تنضح بالوقار والتاريخ والأناقة، وعلى الطاولة جسد إنسان مسجى ــ لا نعلم إن كان مصابا أو شهيدا، فالجسد ملفوف تماما بالبلاستيك الأبيض والضمادات البيضاء ويُشِعّ إحساسا بالألم. العنوان: «طاولة المفاوضات».
عملان من فلسطين: أحدهما فيديو عرض أزياء مناسِبة لعبور حواجز الجيش الإسرائيلى، يعرض فيه شاب تلو الآخر ــ يقبل ويدبر على أنغام موسيقى راقصة ــ ملابس تُسَهِّل الكشف عن الوسط والبطن، أو تتركهما مكشوفين أصلا ــ حتى يتسنى للجنود الإسرائيليين التأكد من عدم تمنطق الشاب بحزام ناسف. والآخر مجسم لقبة الصخرة مغطاة تماما بأقراص وكبسولات الدواء مرصوصة بعناية فائقة، والدواء كله من المهدئات ومسكنات الألم.
ومن سوريا فيلم يسجل الآلاف من كُرات البِنج بونج، منقوش على كل واحدة مطلب من مطالب الثورة السورية، قذف بها الثوار دمشق من فوق جبل قاسيون، فأحدثت دويا هائلا ونزلت تتقافز على بيوت أثرياء دمشق الذين لم يخرجوا للثورة بعد.
أحسد الفنون التصويرية وقعها الفورى والمفاجئ: تجول عيناك فى العمل فيأتى الفهم والاستيعاب والاستجابة فى لحظة. نعم تتسع رقعتها كلما دخلت التفاصيل إلى وعيك ــ لكنها تظل بمعنى ما لحظة متماسكة قوية مركزة. أما الأدب فيعتمد بطبعه على التراكم، القارئ يقرأ الكلمة، ثم الكلمة، والجملة ثم الجملة، وحين يصل إلى نهاية القطعة يكون قد ابتعد زمنا طال أو قصر عن بدايتها.
وبمناسبة الابتعاد عن البداية، كانت خبرة غريبة أن أجلس ضمن الجمهور فى قاعة مسرح فأشاهد عملا مسرحيا (للفنان السورى عمر أبوسعدة)، يتخذ عموده الفقرى من مقالاتى المكتوبة من ميدان التحرير لجريدة الجارديان فى فبراير الماضى، فيورد جزءا من مقال ثم يتبعه باقتباس من محادثات على النت بين ناشطين سوريين. أربعة أمثلة:
ساحة التحرير ــ ١ فبراير ٢٠١١: «معا، فى الميدان، وخلال الأيام الأربعة الماضية، أعدنا اكتشاف كم نعتز بأنفسنا وببعضنا، وكم نحن طيبون. قدمنا لبعض الماء والتمر والبسكوت. الشباب يجمعون القمامة ويكنسون الميدان والهتافات تدوى والمطالب تتبلور وخيارات المستقبل تُناقش على الدوام».
٢٠١١/٤/٥
عامر: مع كل رصاصة تطلق نخسر فرصة وطن أفضل. كل رصاصة بحجم مرسوم. الموت للرصاص الحى
إبراهيم: الرصاص يبدو الشىء الحى الوحيد الآن وهنا
دانا: الموت للرصاص الحى
ربيع: نعرف جيدا من يطلق الرصاص..... لن ننسى
ساحة التحرير ــ ١ فبراير ٢٠١١: «الدبابات تحاصر ميدان التحرير لكن الجيش صرح بأنه لن يهاجم الشعب أبدا. شباب مصريون يحيطون بالدبابات ويتحادثون مع الجنود، يورطونهم. مساء أمس عقدت مباراة كرة قدم ــ «الجيش ضد الشعب» والجائزة دبابة. الشعب كسب المباراة، ولم يحصل على الدبابة. لكن بعدها انطلقت واحدة من أكثر الهتافات تكرارا اليوم فى ساحة التحرير: الجيش والشعب إيد واحدة».
٢٠١١/٤/٦
يامن: شو يعنى هلق؟؟ التغت العسكرية شى؟؟
هبة: هههههههههههههههههههههههههه
وسيم: رجاع نام، أنا بفيقك بس يصير شى
٢٠١١/٤/٧
جواد: الجيش السورى خط أحمر.. أحمر أحمر
٢٠١١/٤/١٧
شبكة شام | S.N.N
شام ــ حمص ــ عاجل: منذ أذان المغرب والدبابات تحاصر تلبيسة ولا أحد يمكنه معرفة عدد الشهداء
ساحة التحرير ــ ١ فبراير ٢٠١١: «لم أفكر أبدا بسيناريو محتمل نرحب فيه بتدخل عسكرى، لكن الجيش المصرى جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصرى. لقد رفض الجيش مرتين، فى عامى ١٩٧٧ و١٩٨٦، أوامر مباشرة بإطلاق النار على المتظاهرين المصريين. والجندى المصرى عند دخوله الجيش يقسم ألا يرفع سلاحا أبدا فى وجه مصرى. سوف يؤَمِّن لنا جيشنا، إذا، هذا الفضاء فى بلدنا لنمضى فى طريق ثورتنا السلمية الديمقراطية الشابة الشاملة المفتوحة الشعبية.
٢٠١١/٥/٤
رنا: أطرف شى قريتو مبارح هو جملة من بيان وزارة الداخلية: وزارة الداخلية تعتبر التظاهر حالة صحية.
هنادى: حالة صحية يعنى متل السرطان أو الخراج
يارا: يمكن قصدهم حالة صحية خطرة بدها استئصال
مازن: صحية يعنى تبع الصرف الصحى
ساحة التحرير ــ ١١ فبراير ٢٠١١: «انظروا إلى شوارع مصر الليلة: هكذا يبدو الأمل!»
٢٠١١/٤/١٧
سمر: غدا صباحا لن تجِدَ أبا يصنعُ لها سندويشة لبنة ونعنع... ويقولون إن التغيير يحتاج إلى وقت!!! ؟ أبدا
شبكة شام | S.N.N
شام ــ اللاذقية ــ ولا زال اطلاق النار مستمرا ليلة ٤/١٧
شبكة شام| S.N.N
شام ــ حمص ــ عاجل: اعتقال كل من يذهب إلى بنك الدم للتبرع بالدم.... نرجو التوجه لمشفى البر بالوعر للتبرع بالدم وليس لأى مكان آخر لأن مشفى البر محمى ومحاصر من قبل الشباب
خبرة بالتأكيد ستكون غريبة فى أى وقت، أما اليوم، فالمفارقة المقصودة فى النص ــ بين الوضع المصرى والوضع السورى ــ تكاد تختفى تحت راقات المفارقات الجديدة التى تلفها، مثلا بين براءة المقال وخبث الواقع، أو بين المشهد وقتها والمشهد الآن، دخل الزمن كفاعل فى العمل وأضاف إليه فزحزح معناه وتأثيره.
ذكرتنى برلين كيف تركنا بصمتنا على العالم: يتحدث الألمانى مدير «بيت الفن» الذى يستضيفنا عن أثر ثورة ٢٥ يناير فى إعطاء الأوربيين أفكارا عن الأدوات التى يمكنهم استعمالها فى مقاومة عملية الابتعاد عن الديمقراطية التى تتعرض لها مجتمعاتهم، وفى تزويدهم بالأمل فى إمكانية وجَدوَى التحرك الشعبى. يرقبوننا اليوم ــ نحن العرب ــ ليروا أمثلة حية لدور الثقافة ــ بمعناها الكبير ــ فى المسيرة الثورية. يقولون: عادت منطقتكم تُعَلِّم العالم. يقول المفكر الهندى، عقيل بلجرامى، أن ما حدث، بالذات فى مصر وتونس، يبدأ فى إعادة الندية للعلاقة بين المنطقة العربية والغرب ــ إذ يجد الغرب الآن ما نسبقه فيه يتعلمه منا.
هو ما يحدث حين ترى ثورتنا من الخارج: تدرك مرة أخرى حجم إعجازها، وتستشف ماذا يمكن أن يكون تأثيرها على مجرى الأمور فى العالم كله، وتدرك أيضا حجم الفرصة التاريخية التى كاد المجلس العسكرى يضيعها على نفسه وعلى البلد. أقول «كاد» لأن طرف الفرصة لا زال موجودا، يمكن للمجلس الإمساك به: مصر، وشعبها، ومكانتها، وتاريخها، وتأثيرها فى كفة، ومصالح الجنرالات الفردية الزائلة فى كفة ــ أفلا يرتأون؟