لا ينقص إسرائيل وشعبها طوال تاريخهما الحيلة والخديعة، وإشعال الحروب فى كل مكان وكل زمان، هكذا تاريخهما وتاريخ الصهيونية، ووسائلهم لتحقيق أهدافهم متعددة، فهم يسعون دائمًا لتقمص دور الضحية المعتدى عليهم من الآخرين، أيًا كان الآخر ملاكًا أو صاحب حق أو مُغتصَب منهم، فاللص والمحتال والمجرم لا تأخذهم رأفة بأحد، ولا يخجلون من بجاحتهم، وكل ما يعنيهم الحصول على مبتغاهم!
من المؤكد أن إسرائيل أصابتها هزيمة منكرة فى عدوانها على غزة، وأن سمعتها فى العالم كله تشوهت بشكل كبير، فانكشفت حقيقتها أمام كل شعوب العالم، وظهر وجهها القبيح للقاصى قبل الدانى، هذا باعتراف أصدقائها وداعميها قبل أعدائها، هكذا يعترف الرئيس الأمريكى بايدن فى محاولاته لإثناء رئيس وزراء إسرائيل عن الهجوم على مدينة رفح فى غزة بقوله: «إن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يؤذى إسرائيل أكثر من مساعدتها»، ويصرح بوضوح أمام العالم كله بـ«أن العالم تحول ضد إسرائيل، وإن حلفاء مقربين من واشنطن أبلغوها بتحول فى سياستهم تجاهها».
ويصل توجه الرئيس الأمريكى إلى أقصى مداه عندما أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلى أنه سيعلق مداولات صفقة السلاح المستقبلية لإسرائيل فى الكونجرس مؤقتا لحين التماس تغيير فى استراتيجية إسرائيل، وقد أكدت هذا المنحى رئيسة مجلس النواب الأمريكى السابقة نانسى بيلوسى عندما وقعت على رسالة مع أعضاء آخرين موجَّهة إلى الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتونى بلينكن تطالبهما بوقف عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل!
• • •
لا شك أن إسرائيل – نتيجة لشعورها بالهزيمة - قد أوصلت نفسها إلى أقصى مدى من تحدى العالم، فهى تتصرف كالأسد الجريح؛ كسرت قوانين العالم المتفق عليها من الجميع خاصة عندما استهدفت بالقتل عناصر فريق الإغاثة التابع لمنظمة «المطعم المركزى العالمى» فى غزة، مما اضطر بايدن بمطالبة نتنياهو بتقديم تقرير مفصل بشأن الحادثة، ودعوته لبدء فورى فى إجراءات تحقيق فى الواقعة تتضمن محاسبة شاملة، ولم يكتف بهذا بل أرسل مستشاره للأمن القومى الأمريكى لإسرائيل من أجل متابعة الخطوات الملموسة بشأن تغير سياسة إسرائيل فى غزة، فضلًا عن إدانة الحكومات الأوروبية كلها لهذه الجريمة!
هكذا وصل الطرفان المتحالفان إلى أقصى التضاد فى المواقف – على غير ما هو معتاد - وقد تيقَّن الرئيس الأمريكى أن رئيس الوزراء الإسرائيلى يعمل بكل جهده على إحراجه وابتزازه خاصة وأنه مقبل على انتخابات رئاسية بعد أشهر قليلة.
• • •
استشعر نتنياهو إدراك بايدن لهذه الحقيقة، وأحس بخطورة موقفه، وأنه يخاصم المصالح الشخصية للرئيس بايدن، وهذا لن يمر مرور الكرام، فاستدعى على الفور طبيعة قومه من الدهاء والخديعة والمكر السيئ، فوجد نفسه مضطرًا للبحث عن حل «خارج الصندوق»، لصرف أنظار العالم عن جرائمه ومذابحه والإبادات الجماعية فى غزة، فقام فى الأول من أبريل 2024 بالاعتداء على القنصلية الإيرانية فى سوريا، وقتل أحد عشر شخصا، بينهم ثمانية إيرانيين وسوريان ولبنانى واحد، علمًا بأن جميعهم عسكريون. على الفور، أعلن الحرس الثورى الإيرانى أن «الهجوم الإسرائيلى» على مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق هو بمثابة هجوم على أراضى إيران، وانتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولى والمبدأ الأساسى المتمثل فى حرمة المبانى الدبلوماسية والقنصلية، وصرح الرئيس الإيرانى - إبراهيم رئيسى - أن هذا الهجوم «لن يمر دون رد»، وهذا ما كان يتوقعه رئيس الوزراء الإسرائيلى ويسعى إلى تحقيقه!
كشفت إيران عن خطتها الحربية للرد بتجهيز عدد كبير من الطائرات المُسيرة والصواريخ الباليستية لضرب إسرائيل فى العمق، وهذا أمر مستغرب فى الحروب فلا أحد يكشف عن خططه العسكرية؛ وأتاحت هذه التصريحات المبالغ فيها الفرصة لإسرائيل لكى تعيش دور «الضحية» المُعتدى عليها، فأعلنت حالة الطوارئ فى كل أنحاء الكيان، وأغلقت المطارات، وألغت الدراسة فى المدارس والجامعات، وطلبت من الجميع النزول فى الملاجئ للاحتماء من الهجوم الإيرانى الذى أعلنت إيران عن موعده، وعن مسار عبور الطائرات والصواريخ من فوق العراق والأردن وسوريا، التى أسقطت إسرائيل معظمها على هذه الدول دون أن تقع أى ضحية فى إسرائيل!
إنها سيناريوهات متشابهة تحدث دائمًا فى حالة الاعتداء الأمريكى أو الإسرائيلى على المصالح الحيوية الإيرانية أو على شخصيات عسكرية هامة مثل اغتيال القائد الإيرانى الكبير قاسم سليمانى فى يناير 2020 فى غارة أميركية بالقرب من مطار بغداد الدولي، ومن بعده اغتيال القيادى رضى الموسوى فى ديسمبر 2023 فى غارة إسرائيلية على العاصمة السورية دمشق، أحد كبار جنرالاتها الذى كان رفيقا مقربا للجنرال قاسم سليمانى، الرئيس السابق لفيلق القدس الإيرانى… إلخ، والكثير من هذه الاعتداءات التى لم نر رد فعل إيرانيا واحدا أدى إلى وقوع مقتل أحد من الإسرائيليين أو الأمريكان انتقامًا لضحايا إيران!
• • •
من الواضح أن الفكرة التى فكر فيها رئيس الوزراء الإسرائيلى بضرب القنصلية الإيرانية قام بها ليخرج من عدة مآزق داخلية وخارجية؛ داخليًا: أراد أن يجمع شمل شعبه الذى انقسم حوله مطالبًا بإجراء انتخابات مبكرة للتخلص منه، فالشعب الإسرائيلى أصبح على يقين بأن رئيس وزرائه لا يريد حلًا لتحرير الرهائن حتى لا تنكشف أخطاؤه فى 7 أكتوبر؛ وخارجيًا أراد نتنياهو أن يُصرف أنظار العالم عن جرائمه ضد شعب غزة الأعزل، ومحاولة تجويعه بعدم السماح بمرور الإعانات الغذائية بل وقتل مندوبى منظمات الإغاثة الدولية. هكذا جاء الرد الإيرانى المسرحى والهزلى المتفق عليه مع الولايات المتحدة لإنقاذ رئيس الوزراء الإسرائيلى من السقوط إلى الهاوية، ومساعدته على الخروج من المآزق الداخلية والخارجية، كما نجح نتنياهو فى انتهاز هذه الفرصة ليجعل الرئيس الأمريكى يتراجع عن مواقفه وتصريحاته المعادية لحكومة إسرائيل الحالية، ويدفعه لأن يعلن أن الولايات المتحدة ستقوم بتسليح إسرائيل بكل أنواع الأسلحة للدفاع عن نفسها، وأن يعاود تصريحاته القديمة قبل وبُعَيد 7 أكتوبر بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستدافع بكل قوة عن إسرائيل!
• • •
يعتبر هذا أكبر مكسب استطاع أن يحققه رئيس الوزراء الإسرائيلى المهزوم بنيامين نتنياهو الذى فشل فى تحقيق أى هدف من أهدافه، وأهمها اجتياح رفح، وإجبار المواطنات والمواطنين الغزاويين على ترك وطنهم، وتهجيرهم إلى سيناء المصرية ليحقق التهجير الأخير للشعب الفلسطينى، والانتهاء تمامًا من القضية الفلسطينية، إلا أننا نعتقد أن الأهم من هذا كله - كنتيجة لضرب القنصلية الإيرانية فى سوريا فى الأول من هذا الشهر والرد الإيرانى العبثى عليه - هو رفع حبل المشنقة من على رقبته – حتى ولو مؤقتًا - وتقديم طوق نجاة له لم يكن يحلم به، كما سمحت له بتقديم نفسه على أنه حامى دول الخليج من اعتداءات إيران عليهم، ومن ناحية أخرى يجد لنفسه مخرجًا أو حلًا لإنهاء الحرب على غزة ولكن بضمان حماية العالم لأمن إسرائيل من عداء إيران لها كما يصوره لنفسه وللعالم!