لا يُراقصون النيران - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 5:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا يُراقصون النيران

نشر فى : الخميس 18 أغسطس 2011 - 9:32 ص | آخر تحديث : الخميس 18 أغسطس 2011 - 9:32 ص

 تنذهل العيون وهى تشاهد العشرات من هذه العظايات طويلة الذيول التى تشبه السحالى تراقص النيران فى المدافئ فى برد شتاء الشمال الكابى الطويل الثقيل، تظهر كأنها تنبثق من ألسنة اللهب وتمور فى قلبها وفى قلبها تذوب ثم تختفى لتستقر أسطورتها فى حكايا الشماليين، عن العظايات عاشقة النار التى تولد من النار وتختفى فى النار، ولا يدركون سرها إلا متأخرا عندما تهدم المعرفة خرافة الأسطورة، وتكشف عن واقع أسطورة أخرى حيَّة فى قلبها، وتظل الدهشة ثمِلة بأعاجيب الحياة والكائنات.

إنه السمندل مرة أخرى، أو السمندر، أو السلامندر، لكنه ها هنا سمندر النار «salamander Fire» كما تسميه بعض المراجع العلمية ناهيك عن كتب العجائب والغرائب، بل إن كتب التراث العربى لم تفوِّت الإفتاء فى أمره، فسماه الجواهرى «السندل» وابن خلكان «السمند» وقالا إنه طائر! وقال عنه الدميرى صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى: «من عجيب أمره استلذاذه بالنار ومكثه فيها وإذا اتسخ جلده لا يُغسل إلا بالنار، وهو دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل يُنسج من وبرها مناديل إذا اتسخت ألقيت فى النار فتنصلح ولا تحترق»، وزعم آخرون أنه «طائر يبيض ويفرخ فى النار»! أما القزوينى فاكتفى بالقول «إنه نوع من الفأر يدخل النار»!

وإنه لسمندل، مجرد سمندل بائس من طائفة البرمائيات لا وبر له ولا ريش ولا يولد من النار ولا يرقص فى النار لكن ألسنة النار هى التى تلحق بأذياله كضربات قدر ينجو منها بأعجوبة من أعاجيب ضعفه وتعويضات هذا الضعف التى حباه بها خالقنا وخالقه الرحيم، فهذا البرمائى الضئيل الذى لا تتجاوز أقصى سماكته عند رأسه المدوَّر عن سماكة إصبع، ولا يزيد طوله على شبر بما فى ذلك ذيله المستدق الطويل، هو ككل السمندلات، يتزود جلدها المتغضن بغدد تفرز رطوبة لزجة تصطاد ما تيسر من أكسجين الجو وتذيبه فى قوامها وتنقله إلى داخل هذا الكائن من ذوات الدم البارد، أى التى تتغير درجة حرارتها الداخلية مع حرارة ما يحيط بها، تبرد إن بردت، وتسخن إن سخنت، لكنها قطعا لا تحتمل تطرفات برد الثلوج ولا سُعار حرارة النار!

كل ما فى الأمر أن هذه الكائنات الضعيفة عندما يباغتها برد الشمال القارس تبحث عن مخابئ تتوارى فيها من عصف الرياح الصقيعية وانهمار الثلوج اللادغة، ويتواكب أن تجد بعض مرادها فى كتل خشب الأشجار القديمة التى قطعها البشر وخزنوها فى أكواخ بجوار منازلهم، فتسارع هذه الكائنات بالاختباء فى شقوق هذا الخشب القديم، وعندما يُلقِم البشر مدافئهم بقطع الخشب وتشتعل، تقع الواقعة على أجساد هذه الكائنات الضعيفة، فتفر من الشقوق لتجد نفسها فى لهيب النار، لا تُراقصه ولا تُعاقصه، بل تبحث مذعورة حائرة متخبطة عن سُبل للهروب، فتبدو لعين البشر راقصة فى النار!

وهى لا ترقص فى النار، بل تحتمل جحيمها ملسوعة متقافزة حتى تنفتح لها أبواب الرحمة، وتنشط إفرازات الرطوبة اللزجة من غدد جلدها بغزارة استثنائية، فتعزل عن الأجساد الهشة هول السخونة والحرق حتى تتمكن من الهرب عبر مداخن المدافئ، وتظن أبصار البشر كليلة البصيرة أنها اختفت فى النار كما ظنتها من النار جاءت!

«ليست معجزة، لكنها قوانين لم تُكتشَف» هكذا تقول الحكمة الصينية عن الخوارق، ولا شك أن هناك خوارق فوق مستوى الإدراك البشرى، لكن المعرفة فى عميق إدراكاتها لا تبعدنا عن الإيمان بمعجزات الخلق، بل تقربنا من اليقين فى قدرات الخالق وتهدينا إلى التواضع ونبذ الكِبر، ثم إننا يمكن أن نقرأ عبر سطورها رسائل مهمة، سواء بالاتفاق أو المخالفة، وإننى لأقرأ عبر أسطورة هذا الصغير الضعيف الناجى من النار بيد القدرة، واقعا غريبا لطائفة من البشر مولعة بالرقص فى النار بالمعنى المجازى لأحوالهم النفسية. بشر تفتقد نفوسهم الطمأنينة برغم ما يبدونه من مظاهر الاستقرار والتوازن ورسوخ اليقين، وهم عِوضا عن أن التماس موارد الطمأنينة ليرتوا منها فتطمئن نفوسهم، يسعون بوعى أو بلاوعى إلى بث عدم الطمأنينة فيما حولهم. وهم فى تسعيرهم لنيران القلق هذه، لا يتورعون عن التلويح برايات تشنجاتهم مستخدمين فى ذلك كل مزاعم احتكار الصواب، سواء كانت دينية متعصبة أو دنيوية متخشبة.

نحن فى لحظة وطنية حرجة بالفعل، وهى تستتبع الانتقال من إيحاءات الأمثولة إلى صريح الرأى، فمن أمثولة سمندل النار هذه نستبين نوعا من البشر لديهم ولع حقيقى بالرقص فى النيران، نيران المعاظلة والعنف فى القول أو الفعل، وتسعير الخلاف حيثما حلوا، لأنهم لا يطيقون اختلافا معهم أو عنهم، فهم طاقة استبداد وتسلط فى نهاية الأمر. ومن العجيب أنهم يخرجون كما سمندل النار من الشقوق، شقوق عتامة تطرفاتهم الفكرية وتأويلاتهم الجانحة، سواء كأيديولوجيا سياسية أو ادعاء دينى، وبرغم التباين الشاسع بين مظاهرهم ومخابرهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا أنهم ينطوون تحت التركيبة النفسية ذاتها، تركيبة المتعصب، المتيبس، الجامد، الذى لا يشع طمأنية ولا يعكسها لأنه لا يمتلكها ولا يسعى لامتلاكها. وهؤلاء هم وقود فتنة التاريخ، وفتنة لحظتنا الحاضرة.

لقد هممت بأن أذكر نماذج من هؤلاء وأولئك من مدمنى الرقص فى نار الشقاق والتكاره، لكننى اهتديت إلى سبيل آخر لنبذ هذا السوء، لا بتحديده ورفضه، بل بالإشارة إلى نقيضه وتثمينه، ونقيضه بشر أسوياء جميلين يعرفون حدودهم تحت سماء الله الرقيقة الرحيبة التى نختنق ونحترق إن تجاوزنا أجواز زرقتها الخفيفة، ويعرفون حدودهم على أرض ربنا التى لا نحيا على سطح ألواحها التكتونية الواهية العائمة على جحيم من صُهارة إلا برحمة من لدنه، ومن ثم تجد فى هؤلاء البشر الجميلين المتواضعين رحمة بأنفسهم وبأوطانهم والناس، كل الناس. وتجد فيهم تسامحا، وأفقا سياسيا واجتماعيا ودينيا ودنيويا رحيبا، وأذكر منهم على سبيل الأمثلة لا الحصر: مجموعة الشباب العذب ممن يُسَمَّون «سلفيو كوستا» فى انفتاحهم وتعايشهم المتسامح مع المختلفين عنهم، والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فى فهمه الراقى لثقافة ما بعد العلمانية، والدكتور عبدالجليل مصطفى وموازنته المسئولة عن حدود الاحتجاج ومراعاة المخاطر الوطنية والصالح العام للأمة، وكثيرين من شباب الإخوان وبعض كبارهم، كما كثيرين من شباب اليساريين والليبراليين وبعض كبارهم، وليس أخيرا كل هؤلاء الذين يقبلون الخير أنَّى كانت مصادره كما فى مسألة الاتفاق على مبادئ عامة لدستور جامع لكل أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن الأغلبية الساحقة من المصريين الوسطيين بطبيعتهم، من كل الطوائف والمشارب والطبقات، الذين امتعضوا من تلويح رايات قلة شيوعية بلهاء فى الميدان، وفزعوا من تشنجات وهتافات تعصب وعدوانية غُلاة الوهابية فى الميدان نفسه.

متى نصل إلى حقيقة أن مدمنى الرقص فى جحيم الأنفس مفتقدة الطمأنينة بكل ألوانهم واشكالهم ومقولاتهم وراياتهم وتعصباتهم وجمودهم ما هم فى بحر الثمانين مليونا أو يزيد إلا قلة، بينما مطمئنو النفوس عاشقو الأنوار من كل الاجتهادات والمشارب كثرة، ومتى ننحى أو نحيِّد قلة مدمنى الجحيم النفسى حتى لا يدمروا لحظتنا ويصادروا الغد، ونفسح المدى لعشاق الضياء، صعودا نحو أفق أفضل وأجمل وأرحم؟

أمامنا الكثير من الخير الذى يتوجب علينا أيها الناس مباشرته والتبكير فى إنجازه، وعدم الإفساح لسخافات المولعين بمراقصة النار حتى لا يُعاق هذا الإنجاز: بناء ديمقراطى فيه الخير لكل الناس، يصون حقوق الإنسان أشرف المخلوقات، ويصون حق المواطنة للجميع كموقف أخلاقى دينى ودنيوى معا، ويضمن تداول السلطة ودولة القانون وِقاء من أى تسلط وسطوة، وهذا يعنى التأسيس لمبادئ دستور جامع اتفق فيه كل الفرقاء على أن تكون المادة الثانية فيه مصونة، كما رحَّب إسلاميون عدول بأن تضاف للدستور المأمول مادة تصون حقوق غير المسلمين . فأين المشكلة؟ وأين فى ذلك فزاعة ما يسميه البعض التفافا على إرادة الأغلبية إذا كان هذا التوافق يصون حقوق الأغلبية كما الأقلية، وسواء بشرت به مسودة مبادئ دستورية أو إعلان دستورى جديد؟!

وبموازاة ذلك البناء الديمقراطى، أمامنا، ودون إبطاء أيضا، الشروع فى بناء نهضوى حضارى، اجتماعى واقتصادى وثقافى تحدياته كثيرة نعم، نعم تحدياته كثيرة وخطيرة بعد كل التخريب والنهب الذى اقترفه (وولداه وعصابة المنتفعين من استبداده وفساده) ذلك النائم اللاهى الآن على سرير طبى فى قفص المحاكمة الأخيرة المشهودة، لكننا نستطيع.

نعم، لو أخلصنا النية ونقينا الإرادة: نستطيع.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .