توافقت الدول الأعضاء فى اتفاق باريس للمناخ (2015) على توفير اعتمادات مالية سنوية لدعم جهود مكافحة التغير البيئى والتكيف معه. فى باريس، تعهدت الدول المتقدمة فى الشمال الغنى، بجانب العمل على خفض انبعاثاتها الحرارية والكربونية لكيلا يتجاوز ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية حد الدرجة ونصف مئويا مقارنة بما كانت عليه حرارتها عند بداية الثورة الصناعية الأولى فى القرن التاسع عشر، بمساعدة الدول النامية والأقل نموا فى الجنوب الفقير على التعامل مع الآثار المدمرة للتغير البيئى عبر توفير اعتمادات مالية كان يفترض أن تصل سنويا إلى 100 مليار دولار. غير أن دول الشمال الغنى تحايلت على تعهداتها بصورة ممنهجة، ولم تبق منها سوى على الحبر الذى خطت به البيانات المتكررة لقمم المناخ السنوية، وتركت دول الجنوب تواجه مصائرها التى أضحت الكوارث البيئية كالأعاصير والفيضانات والحرائق وتراجع مساحات الغابات وندرة المياه والتصحر والجفاف وما يترتب عليها من دمار وفقر وغياب للأمن الغذائى عاملها المشترك الأهم.
كان يفترض أن تسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ونظرا لحجم اقتصادها وهو الأكبر عالميا، بنسبة 20 بالمائة من الاعتمادات المالية السنوية التى أقرها اتفاق باريس. غير أن الإدارة الديمقراطية للرئيس الأسبق باراك أوباما التى وقعت على الاتفاق لم تقدم فى عامها الأخير فى البيت الأبيض (2016) الأموال المطلوبة. ثم جاءت الإدارة الجمهورية للرئيس السابق دونالد ترامب وأخرجت الولايات المتحدة من اتفاق باريس فى ظل تشكيك اليمين الشعبوى الذى يمثله ترامب فى التغير البيئى وفى جدوى العمل عالميا على خفض معدلات الانبعاثات الحرارية والكربونية. ومن ثم غاب الإسهام المالى الأمريكى بين 2016 و2020 حتى أعادت الإدارة الديمقراطية الحالية للرئيس جو بايدن القوة العظمى إلى اتفاق باريس وأعلنت عن عزمها تقديم الاعتمادات المالية السنوية.
أما دول الشمال الأخرى ذات الاقتصاديات الكبرى كاليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا وإيطاليا، فأسهمت منذ اتفاق باريس على نحو مطرد فى تقديم الأموال المطلوبة لمساعدة الدول النامية والأقل نموا على مواجهة التغير البيئى. غير أن إسهامات تلك الدول الغنية جاءت دوما دون الاعتمادات السنوية المحددة (والمقررة وفقا لحجم الاقتصاد المعنى)، كما أن النمط الذى أخذته إسهامات الأغنياء كان التوسع فى تقديم القروض الميسرة والإقلال من المنح التى توقعها الجنوب العالمى المضار أكثر من غيره بتغير بيئى لم يتسبب به. بين 2015 و2021، ووفقا لمؤسسة أوكسفام العالمية، تجاوزت نسبة القروض فى الاعتمادات المالية العالمية المخصصة سنويا للتغير البيئى حد الـ 70 بالمائة ولم تصل نسبة المنح أبدا إلى 30 بالمائة.
ولم تكن نتيجة السنوات الماضية بين توقيع اتفاق باريس 2015 وبين انعقاد قمة المناخ السابعة والعشرين فى شرم الشيخ 2022 سوى انخفاض إسهامات أغنياء الشمال عن الـ 100 مليار المطلوبة. فى 2016، جمع بين القروض والمنح مبلغ لم يتجاوز 58 مليار دولار، و71 مليار دولار فى 2017، و78 مليار دولار فى 2018، و79 مليار دولار فى 2019، ومبالغ حول الثمانين مليار فى 2020 و2021.
وأضافت إلى مصاعب الدول النامية والأقل نموا حقيقة أن ما يقرب من 80 بالمائة من قروض ومنح مواجهة التغير البيئى تم توجيهها لجهود السيطرة على الأضرار والحد منها وليس التكيف الفعال معها إن بالانتقال الأخضر للقطاعات الاقتصادية الحيوية والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة أو بالابتعاد عن ملوثات البيئة كالوقود الأحفورى (خاصة الفحم) وعن مهددات البيئة كتحويل أجزاء واسعة من الغابات الاستوائية إلى مناطق زراعية تنتج أعلافا للحيوانات عوضا عن النظر فى استراتيجيات بديلة للغذاء النباتى ولتحقيق الأمن الغذائى لفقراء العالم من خلالها وكالعجز عن ترشيد استهلاك المياه بالامتناع عن تحديث تكنولوجيا الرى الزراعى وعن الاستثمار فى تكنولوجيا تحلية مياه البحر.
• • •
بين 2015 و2022، إذن، لم يساعد أغنياء الشمال الدول النامية والأقل نموا على مواجهة التغير البيئى بفاعلية حقيقية تشمل خفض الانبعاثات الحرارية والكربونية بالانتقال الأخضر، وتحجيم الأضرار، والتكيف مع الآثار المدمرة على المديين المتوسط والطويل. وبسبب تنصل الأغنياء من مسئوليتهم، ذلك التنصل الذى يستمر اليوم فى شرم الشيخ بتحايل الولايات المتحدة الأمريكية وكبار الأوروبيين على إقرار آليات ومبالغ محددة لتعويض الجنوب عن الخسائر والأضرار، يتواصل ارتفاع كلفة النجاة بالكرة الأرضية وإنقاذ الجنوب العالمى من الكوارث المترتبة على التغير البيئى. اليوم، تقدر منظمات الأمم المتحدة المتخصصة أن الجنوب العالمى سيحتاج بحلول عام 2030 إلى ما بين 140 و300 مليار دولار للانتقال للأخضر وتحجيم الأضرار والتكيف، وسيحتاج بحلول عام 2050 إلى ما بين 280 و500 مليار دولار. أما تقديرات المنظمات الدولية المتعلقة بالمسئولية التاريخية للأغنياء عن تعويض الجنوب عن الخسائر والأضرار المتراكمة للتغير البيئى، فتتراوح بين ما يقرب من 600 مليار دولار مستحقة للدول النامية والأقل نموا فى 2030 وما يتجاوز 1.5 تريليون دولار فى 2050.
كيف يمكن للجنوب والشمال على تحايله وتنصله أن ينجح فى مواجهة التغير البيئى؟ ثمة بدايات مشجعة أسفرت عنها الأيام الماضية فى قمة شرم الشيخ، وثمة آمال مشروعة أظهرتها نتائج التقدم العلمى والتكنولوجى فى المجالات البيئية التى خرجت إلى العلن فى الفعاليات الكثيرة لقمة المناخ السابعة والعشرين. البداية المشجعة الأولى هى إدراج التعويض عن الخسائر والأضرار على جدول أعمال القمة واستمرار التفاوض حول الآليات والمبالغ المرتبطة به حتى وإن تنصل الشمال من الالتزامات المحددة. البداية المشجعة الثانية هى إعلان بعض دول الشمال الصغيرة عن رصد منح سنوية لمساعدة الجنوب على الانتقال الأخضر، وهو الأمر الذى حفز الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا على سبيل المثال على الإعلان عن إسهامهما فى خطة مصر للانتقال إلى الطاقة المتجددة (إجمالى قيمة الخطة هو 10 مليارات دولار) بقروض ومنح تبلغ مجتمعة نصف مليار دولار وحفز أيضا دول الاتحاد الأوروبى واليابان وكندا على عقد شراكات للانتقال الأخضر مع بعض دول الجنوب (خاصة دول الجنوب ذات المعدلات المرتفعة من الانبعاثات الحرارية والكربونية كإندونيسيا). البداية المشجعة الثالثة هى التوسع الذى شهدته قمة شرم الشيخ فى أدوار بنوك التنمية العالمية، من البنك الدولى والأوروبى إلى البنوك الإقليمية الأخرى، والبنوك التجارية والبورصات العالمية فيما خص تمويل الانتقال الأخضر وتحجيم أضرار التغير البيئى والتكيف معه فى الجنوب العالمى من خلال برامج الإقراض الميسر (مبادرة بريدج تاون مثالا).
أما الآمال المشروعة، فجلها يرتبط بالقفزات الهائلة فى المعارف العلمية والتكنولوجية المتاحة لتقليل الانبعاثات الحرارية والكربونية عالميا وللتكيف مع التغير البيئى على نحو يجمع بين الانتقال إلى الطاقة المتجددة والنجاة بالمناطق المهددة بكوارث بيئية متكررة من الدمار وترشيد التعامل مع موارد حيوية كالغابات والمياه والدمج بين تحقيق الأمن الغذائى للفقراء وبين الامتناع عن مواصلة رفع درجة حرارة الكرة الأرضية. وعلى الرغم من أن تفعيل قفزات العلم والتكنولوجيا الهائلة فى خطط وبرامج وسياسات يستدعى حضور الإرادة السياسية للحكومات فى الشمال والجنوب ويستدعى أيضا تنفيذ التعهدات والالتزامات، إلا أننى أتمنى أن يتمكن التقدم العلمى والتكنولوجى من فرض حقائقه وأدواته على الحكومات ومن دفعها إلى الاتجاه المطلوب لإنقاذ الحياة على كوكبنا.